منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة هدفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى ممارسة الإبادة والمحو بحق السكان الفلسطينيين من قطاع غزة عبر جعْله منطقة غير صالحة للحياة، ولذلك استهدف القطاع الصحي كأحد القطاعات الحيوية بصورة ممنهجة وبالكامل. وفي 9 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أي في اليوم الثالث من الحرب، قصف سلاح الجو الصهيوني مستشفى بيت حانون شمالي قطاع غزة، وهو ما عرّضه لأضرار فادحة، ليكون هذا الاستهداف فاتحة لسلسلة استهدافات مباشرة لمرافق القطاع الصحي منذ أن بدأ الاحتلال الإسرائيلي حربه في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وبعد 5 أيام من قصف مستشفى بيت حانون، قصف جيش الاحتلال مركز تشخيص الأورام في المستشفى الأهلي المعمداني في مدينة غزة، وعبر اتصالات هاتفية بمديري 22 مستشفى في شمال القطاع، أعطى الاحتلال "أوامر" بإخلاء هذه المستشفيات، وقد رفض الجميع، مع الطواقم العاملة، الامتثال لأمر الإخلاء، وأصرّوا على إبقاء القطاع الصحي قائماً في ظل الحرب كضرورة مهنية وأخلاقية ووطنية.
وتوضح سلسلة الهجمات المركّزة على القطاع الصحي في أثناء الحرب أن المقصود هو تفكيك هذا القطاع وتدميره برمته كجزء مركزي للاستراتيجيا العسكرية في الحرب، وذلك في إطار قتل الحياة في الحاضر والمستقبل في قطاع غزة.
وقد شكّل استهداف القطاع الصحي عاموداً رئيسياً للخطة الصهيونية الفاشلة لتهجير سكان قطاع غزة بصورة نهائية، ابتداءً بالشمال، مروراً ببقية المناطق. كما أن استهداف الاحتلال القطاعات الحيوية كافة، وعدم اقتصار التدمير على مرافق القطاع الصحي أو الطبي، يوضح أن الاحتلال يهدف إلى إنشاء محيط حيوي للحرب، يسعى عن طريقه إلى تدمير الحياة برمتها، وليس فقط القطاع الصحي.
ربما لا يبدو استهداف القطاع الصحي في هذه الحرب سابقة تاريخية في مختلف أزمنة الصراعات عبر التاريخ، ولا حتى في تاريخ الصراع مع الاحتلال، لكن السابقة فعلاً هي في شكل التدمير ومداه. وفي هذا الصدد، سجّل مرصد تابع لمنظمة الصحة العالمية نحو 7000 اعتداء على الصحة منذ سنة 2007. وتشكّل اعتداءات الاحتلال على الصحة في فلسطين، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، واحدة من كل سبعة من هذه الاعتداءات، فالتدمير الممنهج والمتكرر لمرفق صحي تلو الآخر خلال هذه الحرب، ابتداءً بالشمال، مروراً بجميع محافظات القطاع، لا مثيل له، حتى لو تم استهداف القطاع الصحي في حروب أُخرى.
فعلى الرغم من الحماية الدولية التي يُفترض أن تتمتع بها المرافق الصحية حتى في ظل الحروب، فإن هناك مجموعات مسلحة رسمية وغير رسمية عديدة تتعمّد استهداف المرافق الصحية خلال القتال. وفي السياق العالمي، فإنه لَطَالَمَا أنذرت الطواقم الطبية من العواقب الوخيمة لعدم التعامل بصورة صارمة مع ازدياد وتيرة الاستهداف العسكري للمرافق الصحية. والجدير بالذكر أن المرافق الصحية شكّلت هدفاً عسكرياً في أفغانستان والعراق وسورية وأوكرانيا وغيرها؛ ففي العراق، أدّى العدوان الأميركي سنة 2003 إلى تدمير 12٪ من مستشفيات العراق، واثنين من مختبرات الصحة العامة، وذلك بعد عقد من تفكيك القطاع الصحي نتيجة الحصار والعقوبات المفروضة على الدولة. وقد تحرّك رأس هرم المؤسسات الدولية بصورة غير مسبوقة في إبان قصف الجيش الأميركي مستشفى تابعاً لمنظمة أطباء بلا حدود في قندز، في أفغانستان سنة 2015، والذي قُتل فيه ما لا يقل عن 42 شخصاً؛ إذ دان مجلس الأمن استخدام العنف ضد المصابين والمرضى والعاملين في القطاع الصحي والإنساني، وطالب بالخضوع للقانون الدولي، وسطّر مسؤولية الدول لمحاسبة المسؤولين عن خروقات القانون الدولي الإنساني.
بينما في قطاع غزة، يكشف الاطلاع على سيرورة استهداف بعض المستشفيات بوضوح النيّةَ الممنهجة لتدمير الصحة برمتها، وليس فقط القطاع الصحي كما سبق أن ذكرنا؛ فقد اتّبع جيش الاحتلال منهجية مشابهة في كل مستشفى، تبدأ بادعاءات عسكرة المستشفى من جانب المقاومة الفلسطينية، وتتبعها تهديدات لإدارة المستشفى بالإخلاء، تتزامن مع قصْف محيط المستشفى، ومن ثم القصف المباشر، فالحصار المحكم، فالاقتحام، فالمجازر والتدمير. لكن في بعض الحالات، اختصر جيش الاحتلال مرحلة الحصار، واتجه مباشرة إلى التدمير، كما فعل في مستشفيات بيت حانون والجزائري التخصصي والعيون الدولي. والأمثلة بشأن أسلوب الحصار والتدمير وافرة وكثيرة خلال هذه الحرب، كأحداث حصار مجمع الشفاء الطبي، الذي يشكّل ربع القطاع الصحي في قطاع غزة، ولا يترك حَرْقُهُ، لاحقاً، مجالاً للشك في نيات الاحتلال فيما يتعلق بالقطاع الصحي.
إن ما يحدث في قطاع غزة، من تدمير ممنهج للصحة وقطاعها، حدث ويحدث منذ سنوات في السياق الفلسطيني كما سبق أن ذكرنا، فالعامل المشترك بين كل اقتحام لمخيم أو قرية أو بلدة فلسطينية هو قطع الطريق أمام سيارات الإسعاف والمسعفين، ومنْعهم من الوصول إلى الجرحى، وقطْع الطرق بين منطقة الاقتحام والمراكز الصحية، وهو ما يؤدي إلى زيادة في حصيلة الشهداء.
ولقد تخللت الانتفاضة الثانية اعتداءات لا تُحصى على الطواقم الطبية، وعرقلة لعملها، واستهداف ممنهج للمرافق الصحية. وفي كل حرب شنتها إسرائيل على قطاع غزة، تم استهداف المستشفيات بصورة عامة، ومستشفى الشفاء بصورة خاصة؛ إذ بدأ تحريض المنظومة الاستخباراتية الصهيونية ضد هذا المستشفى منذ سنة 2009. وقبل ذلك في لبنان، استهدف جيش الاحتلال المرافق الصحية في مخيمات اللجوء خلال اجتياح 1982، إذ كانت طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني تنقل معداتها من مستشفيات المخيمات إلى مبانٍ أُخرى بسبب تكرار استهداف المستشفيات والعيادات.
وقد أوجبت هذه الحالة على الفلسطينيين أن يبتدعوا طُرُقَهُم الخاصة للتصدي لما يفعله الاحتلال؛ فتم تدريب فئات من عامة الشعب على التعامل مع الإصابات بالرصاص الحي في مخيمَي عايدة وبلاطة وغيرهما في ظل غياب الضمانات لوصول طواقم الإسعاف.
وعلى ذلك، فإن توثيق استهداف القطاع الصحي وتدميره في قطاع غزة يشكّل ضرورة ماسة لعدة أسباب: أولاً، من أجل إتاحة معلومات دقيقة وشاملة بشأن أبشع جريمة بحق الصحة في تاريخ القضية الفلسطينية، وربما في تاريخ الاستعمار، لِمَا تشكّله من أهمية، كلحظة مفصلية تؤثر في الحاضر والمستقبل؛ ثانياً، من أجل أغراض البحث العلمي، عبر توفير البيانات اللازمة، وذلك لإتاحة الفرصة للتعمّق في أدوات وأشكال وآثار وتداعيات الاستهداف والتدمير؛ ثالثاً، من أجل توفير مواد يمكن الارتكاز عليها في المساءلة القانونية ضد الاحتلال وشركائه في حرب الإبادة.
وفي منصتنا هذه، والتي بدأت مؤسسة الدراسات الفلسطينية العمل عليها منذ مطلع سنة 2024، يتم التوثيق عبر توفير تفاصيل عن تاريخ كل مستشفى واستهدافه، بالإضافة إلى مراكز الرعاية الصحية الأولية، فضلاً عن توفير ملفات عن كل كوادر القطاع الصحي: الشهداء، والمختطفين، المفقودين، بالإضافة إلى السجل الإعلامي الصادر عن الجهات الفاعلة في قطاع غزة، والذي يرصد أبرز الأحداث وأهمها المتعلقة بتدمير الصحة وقطاعها في قطاع غزة.
ويرتكز مشروع توثيق استهداف القطاع الصحي وتدميره في قطاع غزة، في مرحلته الأولى، على المصادر الثانوية، وخصوصاً تقارير وزارة الصحة في قطاع غزة والمنظمات الفاعلة والتقارير الإعلامية. ونظراً إلى بقاء بعض الثغرات في هذه المرحلة، بسبب عدم توفر بعض المعلومات، وعدم دقة معلومات أُخرى منها، فإن الملفات المتوفرة تُعتبر قاعدة بيانات أساسية، وهي قيد التحديث فور توفُّر أي معلومات إضافية. وسيرتكز البحث في المراحل التالية، وفور انتهاء الحرب أو ما يمكن أن تتيحه أرض الواقع من إمكانية لإجراء بحث ميداني من ذوي الاختصاص والشأن في قطاع غزة، وملء الثغرات، وتحديث المعلومات وتدقيقها. وفي كل مرحلة من المشروع، يوفّر الباحثون والكتّاب مواد مكتوبة ومصوّرة لتحليل الواقع وفهْم تداعياته من منطلق المحيط الحيوي للحرب. ويمكن الاطلاع على تفاصيل منهجية التوثيق في الصفحة المخصصة لذلك.