تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
على حافة الهاوية: الحرب والصحة العامة في غزة
المؤلف
عبد اللطيف الحسيني
سنة النشر
اللغة
انجليزي
عدد الصفحات
11

مقدمة

ابتداء من السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى تاريخ كتابة هذه المقالة لا تزال غزة تتعرض للقصف الجوي والبحري والبري في حرب قاسية تستهدف حياة سكانها وكل مقومات حياتهم فيها، بما في ذلك تدمير البنية التحتية والمباني بجميع أنواعها، والبيوت، والشقق، والماء، والغذاء، والأراضي الزراعية، والطرق، والخدمات كافة، ولا سيما الخدمات الصحية (المستشفيات والمراكز الصحية)، والتعليمية (المدارس والجامعات)، والاقتصاد، والمصانع والمعامل، والبيئة القابلة للحياة. فقد تعرضت هذه المقومات لتدمير ممنهج، بدءاً بالقصف العشوائي للمدنيين، ما أدى إلى قتل وجرح وإصابة عشرات الآلاف، وتشريد وتهجير معظم السكان داخلياً، ناهيك بالحصار الخانق الذي منع وصول الغذاء والدواء، وقطع المياه والكهرباء، ومنع الوقود اللازم لضخ المياه وتحليتها، ومعالجة المياه العادمة والمجاري والنفايات الصلبة، وتشغيل المخابز والمصانع ووسائل النقل والأجهزة الطبية. كما تعاني البيئة في غزة من التلوث الفيزيائي والكيميائي والحيوي الناجم عن الذخائر المستخدمة في القصف بجميع أنواعها، واختلاط مياه المجاري بمياه الشرب وتراكم النفايات الصلبة.

الصحة العامة في غزة

مفهوم الصحة الذي نتبناه هو مفهوم واسع لا يقتصر على الصحة الجسدية فحسب، بل يشمل أيضاً الصحة النفسية، ونوعية الحياة، والمعاناة، والعافية، وذلك ضمن السياق العام للحياة في قطاع غزة بمناحيها كافة. ولذلك من المهم إدراك أن هذه الحرب ليست الأولى التي تستهدف غزة، فسكان غزة بصورة خاصة، وفلسطين بصورة عامة، مستهدفون من دولة الاحتلال منذ قيامها بالحروب والحصار. وبالتالي، من المهم التأكيد أن المقاربة الصحيحة لفهم وضع الصحة العامة في غزة وتحليله لا يمكن أن يتم من دون إدراك المحددات السياسية والاجتماعية للصحة، وأهمها الاحتلال الذي يعاني جرّاءه معظم أهالي غزة منذ 75 عاماً، بدءاً بكون نحو ثلثي سكان القطاع لاجئين تم تهجيرهم من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 (النكبة)، ثم تعرضوا للاحتلال المباشر عام 1967 (النكسة)، وبعد خروج جيش الاحتلال والمستوطنين وتفكيك المستوطنات عام 2005 بسنتين، أي عام 2007، قام الاحتلال بإطباق الحصار إطباقاً تاماً على غزة، ما أدى إلى إضعاف الاقتصاد، وخصوصاً القطاعين الزراعي والصناعي، ومنع حرية التنقل، حتى أصبحت شبيهة بسجن كبير. وقد صاحبت هذا الحصار سياسة إفقار تحد من قدرة سكان غزة على العمل والزراعة والتجارة والصناعة والتصدير والاستيراد، بالإضافة إلى سبع حروب واجتياحات بدأت عام 2008 واستمرت حتى كانون الثاني/يناير 2009، ثم 2012، و2014، و2019، و2021، و2022، وأخيراً الحرب الحالية 2023-2024. وقد نجم عن هذه الاجتياحات القتل والتدمير والتعرض المكثف للعنف، الأمر الذي يؤثر في الصحة الجسدية والنفسية.

مؤشرات الصحة العامة في غزة قبل حرب تشرين الأول/أكتوبر 2023

على الرغم من أننا سنتطرق خلال هذه المقالة إلى الإحصاءات التقليدية للوفيات والأمراض والإعاقة، فإن مقاربتنا لن تقتصر على ذكر أعداد القتلى والجرحى والمرضى والإصابات الجرثومية والأمراض المزمنة، بل تتجاوز ذلك لتغطي مؤشرات نوعية الحياة والعافية والصحة النفسية، علماً بأن هناك أهمية كبيرة لكل من المؤشرات الصحية الذاتية، مثل التقييم الذاتي لنوعية الحياة أو الشعور بالمعاناة، والمؤشرات الموضوعية، مثل معدل وفيات الرضع أو الأمهات. ولو استعرضنا أهم المؤشرات الصحية لعام 2022 في ذلك الشريط الساحلي الضيق المحاصر الذي تبلغ مساحته 365 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانه 2.166 مليون نسمة، ونسبة اللاجئين من سكانه تصل الى 66.1%، وتزيد نسبة الأطفال دون الـ 15 عاماً من العمر قليلاً عن 40% من تركيبته السكانية لوجدنا مؤشرات جيدة، مع الأخذ بعين الاعتبار الحصار الطويل والحروب المتتتالية. ففي عام 2022 كان عدد مراكز الرعاية الصحية الأولية في قطاع غزة 159 مركزاً، منها 52 تابعة لوزارة الصحة، و22 لوكالة الغوث، و80 للمنظمات غير الحكومية، و5 للخدمات الطبية العسكرية، بالإضافة إلى 6 عيادات نفسية مجتمعية. أمّا المستشفيات فبلغ عددها 36 مستشفى عاملاً، منها 16 مستشفى عاماً و16 مستشفى متخصصاً ومركزان للعلاج الطبيعي وإعادة التأهيل ومستشفى ولادة، بالإضافة إلى مستشفى للأمراض النفسية (Ministry of Health, 2023). كما احتوت غزة على سبع وحدات لغسيل الكلى (الديلزة) تخدم 1034 مريضاً في عام 2022، وبلغت معدلات التطعيم في فلسطين، وضمنها غزة، ما يقارب 97%. وبالنسبة إلى الأمراض المعدية، فقد بلغ عدد حالات التهاب الكبد الوبائي "أ" المبلَّغ عنها 84 حالة بمعدل 3.9 حالة لكل 100 ألف شخص، كما تم تشخيص ما يزيد قليلاً على ألفي حالة سرطان عام 2022. وفيما يتعلق بإحصاءات الوفاة، فقد بلغ العدد الكلي للوفيات في غزة 6061 حالة، وكان معدل وفيات الرضع 10.8 لكل ألف ولادة حية، أمّا معدل وفيات الأمهات في غزة فبلغ 17.4 لكل 100 ألف ولادة حية، وعدد وفيات الأمهات عشر حالات فقط. وبلغ متوسط العمر المتوقع للذكور 72.8 عاماً وللإناث 75 عاماً، أمّا عدد الولادات الكلي فبلغ 57,422 ولادة حية (Ministry of Health, 2023). أمّا بالنسبة إلى عدد الأشخاص ذوي الإعاقة فقد بلغ ما يقارب 58.0000 أي ما يعادل 2.6% من سكان القطاع، بحسب بيان صحافي صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بتاريخ 3 كانون الأول/ديسمبر 2023 (Palestinian Central Bureau of Statistics, 2023)

وأظهرت دراسة أجريت على نوعية الحياة وانعدام الأمن البشري والإحساس بالمعاناة في قطاع غزة قبل حرب 2008-2009 وبعدها، زيادة مهمة إحصائياً في كل من الشعور بانعدام الأمن والمعاناة بعد الحرب (Hammoudeh et al. 2013)، وهي نتائج مشابهة لدراسة أُخرى أظهرت أن العنف الذي يتعرض له سكان غزة في الحرب والحصار المستمرين، هو من مسببات انعدام الأمن البشري (Ziadni et al., 2011). كما تؤكد دراسة نوعية أُجريت في الأرض الفلسطينية المحتلة أن التعرض المزمن والحاد للعنف والحرب الناجم عن الصراع المتطاول عبر الأجيال يؤدي إلى تدني نوعية الحياة بشكل كبير (Mataria, 2009). وبينت دراسة أُخرى أُجريت في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 2011 أن انعدام الأمن البشري والتضييق الاقتصادي (تأثير الحصار على سبيل المثال) لهما تأثيراً سلبياً في الصحة (McNeely et al., 2014). وقد تمكن الباحثون من توضيح أن تأثير الحرب والعنف في المجتمعات الفلسطينية يؤدي إلى المعاناة الاجتماعية بعيداً عن التشخيص المرضي (الباثولوجي) الغربي لاضطراب ما بعد الصدمة (Giacaman, 2018). لكن وعلى الرغم من الحروب المتتالية، والحصار المطبق، والتعرض المستمر لعنف الاحتلال، استمر سكان غزة في محاولة كسر الحصار وبناء المؤسسات الاقتصادية والتعليمية والصحية، وحققوا إنجازات معتبرة، ولا سيما في قطاعي التعليم والصحة.

مؤشرات الصحة العامة في غزة خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر 2023

كان للقصف والتدمير الممنهج الذي ذكر سابقاً تأثير سلبي بالغ في مؤشرات الصحة العامة في غزة، فقد أدى تدمير أكثر من 60% من الوحدات السكنية، كلياً أو جزئياً (OCHA-Reported impact day 107, 2024)، إلى مقتل ما يزيد على 26.000 خلال ثلاثة أشهر و20 يوماً من الحرب، أي ما يزيد على أربعة أضعاف الوفيات في سنة 2022 كاملة، حوالي 70% منهم من الأطفال والنساء، وكذلك جرح ما يزيد على 64 ألفاً من سكان غزة حتى الآن (Ministry of Health, 2024)، علماً بأن تحليل بيانات الوفيات المبلَّغ عنها من جانب وزارة الصحة في غزة أثبت أنه ذو دقة ومصداقية (Jamaluddine et al., 2023). أضف إلى ذلك التبليغ عن 7780 مفقوداً تحت الأنقاض، كل هذا في ظل خروج 21 من أصل 36 مستشفى عن الخدمة بشكل كامل، وبقاء 15 مستشفى تقدم خدمات جزئية (42% فقط)، بالإضافة إلى أربع مستشفيات ميدانية تعمل بشكل كامل، أمّا مراكز الرعاية الصحية الأولية فتذكر منظمة الصحة العالمية أن 19% فقط منها ما زالت تقدم الخدمات، علماً بأن نسبة إشغال أسرة المستشفيات بلغت 409% (World Health Organization, 2024). ويعاني القطاع جرّاء النقص الحاد في المياه وتلوثها، والنقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية (أدوية التخدير، والمضادات الحيوية، والسوائل الوريدية، ومسكنات الآلام، والأنسولين)، والدم ومشتقاته (World Health Organization, 2024)، وكذلك المطهرات والمعقمات، وعدم القدرة على الوصول إلى الخدمات والصحية، ومنها المطاعيم واللقاحات للأطفال، وعدم القدرة على الحفاظ على المطاعيم واللقاحات بالسلسة الباردة لفقدان الكهرباء، ما تسبب بانهيار كبير لكثير من مكونات النظام الصحي، وانشغال ما تبقى من هذا النظام، ومن خدمات صحية وطبية، في التعامل مع الحالات الطارئة من الجرحى من ضحايا القصف. ويضاعف تأثير هذه المشكلات الصحية والبيئية الاكتظاظ السكاني الناتج من التهجير القصري الداخلي لسكان شمال ووسط قطاع غزة إلى الجنوب، حتى داخل مناطق قطاع غزة، والذي يقدر بـ 1.7 و1.9 مليون أي بين 75-85% من سكان القطاع (World Health Organization, 2024؛ UNRWA, 2024). وقد بدأت مؤشرات تدهور الصحة العامة بالظهور، مثل زيادة حالات الإصابة بالأمراض التنفسية، والإسهال، والإصابات المعوية، والتهاب الكبد الوبائي، والقمل. ومن المتوقع أن تزداد الإصابات التنفسية، بصورة خاصة، خلال فصل الشتاء هذا مع الاكتظاط، وكذلك ازدياد الإصابات الوبائية المعوية مع استمرار غياب الماء النظيف ومستلزمات النظافة الشخصية.

وبالنسبة إلى الأمراض المعدية، ونظراً إلى الوضع البيئي الخطر، وتلوث مياه الشرب، وما لهذا من آثار صحية ضارة، فقد لوحظ مؤخراً زيادة حادة في حالات اليرقان والاصفرار التي زادت عن 7400 حالة، والتي من المرجح أن يكون جزء مهم منها ناتج من الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي من نوع "أ"، والذي ينتقل عادة عن طريق المياه الملوثة (World Health Organization, 2024). كما تنتشر الآن الأمراض المعدية، وخصوصاً أمراض الإسهال والتهابات الجهاز التنفسي العلوي، وحتى 22 كانون الثاني/يناير 2024، تم الإبلاغ عن أكثر من 159 ألف حالة إسهال، وبين هذه الحالات، كان هناك أكثر من 84 ألف حالة إسهال بين الأطفال دون سن الخامسة، وهو ما يمثل زيادة قدرها 23 ضعفاً عن عدد الإصابات لعام 2022، وأكثر من 225 ألف حالة التهاب تنفسي حاد، وحوالي 70 ألف حالة من الجرب والقمل، وأكثر من 44 ألف حالة من الطفح الجلدي، وأكثر من 6600 حالة من جدري الماء (World Health Organization, 2024).

أمّا بالنسبة إلى الأمراض غير المعدية فهناك أكثر من 350 ألف مريض لا يحصلون على الأدوية والخدمات الطبية، أو يحصلون عليها بشكل ضئيل، بما في ذلك 225 ألفاً من الذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم، و71 ألف شخص يعانون من مرض السكري، و45 ألفاً يعانون من أمراض القلب والأوعية الدموية، ونحو 10 آلاف حالة سرطان، إذ يتم تشخيص ما يقارب 2000 حالة سرطان سنوياً، و1100 مريض غسيل كلى وغيرهم. بالإضافة إلى أكثر من 485 ألفاً يعانون من الأمراض والاضطرابات النفسية والعقلية، والتي يرجع جزء كبير منها إلى الضغوط النفسية اليومية الشديدة، ومنها القصف وعدم القدرة على توفير الحاجات الحياتية الأساسية (World Health Organization, 2024).

كما يشكل انعدام الأمن الغذائي تحدياً كبيراً للوضع الصحي لسكان غزة والبالغ عددهم 2.2 مليون نسمة، بما في ذلك الأطفال والنساء الحوامل. وقد أفادت المنظمات المعنية بالأمن الغذائي بأن غزة تواجه "مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي"، وأن 93% من سكان القطاع يعانون من الجوع بمستويات غير مسبوقة (World Health Organization, 2023)، فهناك نحو 378 ألفاً في المرحلة الخامسة الكارثية من الجوع ونقص الغذاء وفقدان القدرة على التكيف مع الوضع الغذائي، بالإضافة إلى نحو 939 ألف شخص في المرحلة الرابعة من انعدام الأمن الغذائي، أي مرحلة الطوارئ، بحسب التصنيف المدمج للأمن الغذائي (World Health Organization, 2024؛ OCHA Flash Update #100, 2024). ولا يمكن للمنظمات الدولية التي تنشط في مجال توفير الغذاء سوى تلبية جزء محدود من الحاجات الغذائية إذا لم يتم اتخاذ إجراءات فورية وشاملة لتوفير الغذاء.

وبالنسبة إلى الإعاقات، فمن المتوقع أن تزيد بشكل حاد مع العدد الهائل من الجرحى والمصابين، وبحسب تقدير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، هناك ما لا يقل عن 5000 من جرحى الحرب في غزة يعانون من إعاقات شديدة الخطورة، حسب البيان الصحافي للمرصد المنشور في 7 كانون الأول/ديسمبر 2023 (Euro-Mediterranean Human Rights Monitor, 2023). كما أن الأثر النفسي الكبير لما تعرض له سكان غزة لم يظهر بشكل واضح وكامل حتى الآن، علماً بأن جميع مراكز الصحة النفسية المجتمعية قد أُغلقت ونفد منها الدواء، كما أن المستشفى الوحيد للأمراض تم قصفه وخرج عن الخدمة (Jabr & Berger, 2023). إن الخسارة الهائلة في الأرواح ومقومات الحياة، وتدمير المنازل والمؤسسات، والحرمان من الحاجات الأساسية، كلها أمور من شأنها أن تؤثر في الصحة النفسية لفترة طويلة. ومن هنا تظهر الحاجة إلى بذل جهد واضح لعودة الحياة الطبيعية، وإعادة بناء المساكن، وتوفير الماء والغذاء، وضمان عدم إغفال الصحة النفسية وتغطية جميع جوانبها من خلال استراتيجية صحية شاملة تتضمن تلبية الحاجة إلى رعاية الصحة النفسية وتوفير الدعم النفسي (Najem et al., 2024, unpublished)، على أن يعتمد الدعم النفسي، بصورة رئيسية، على التدخلات الجماعية والمجتمعية التي تلائم مجتمعاتنا بدلاً من التدخلات الفردية. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأطفال، إذ يُفضل استخدام نهج المجموعات للتعافي (Jabr & Berger, 2023).

الأثر المستقبلي للحرب في الصحة العامة في غزة

من أهم تأثيرات الحرب في الصحة العامة في غزة هي الزيادة الكبيرة في عدد الوفيات الناجمة عن الحرب بطريقة مباشرة (القصف، وإطلاق النار ...الخ)، وغير المباشرة والناجمة عن الأمراض المعدية وغير المعدية ونقص الرعاية الصحية نتيجة تدمير النظام الصحي، وكذلك بسبب نقص الرعاية الصحية للولادات والأمهات والمواليد الجدد بصورة خاصة، فهناك ما يقارب 52 ألف امرأة حامل في غزة، وقد لوحظت زيادة في عدد حالات الإجهاض وولادة الأجنة الميتة (Elnakib et al., 2024؛ Checchi et al., 2023)، وأيضاً زيادة عبء الإصابة بالأمراض المعدية بشكل كبير، وزيادة التفشيات الوبائية تكراراً وشدة. ومن المتوقع ازدياد عبء الإصابة بالأمراض غير المعدية ومضاعفاتها، وتدهور الوضع الغذائي والأمراض المتعلقة بسوء التغذية والمضاعفات الناتجة منها، والمضاعفات الناجمة عن عدم توفر الأدوية والعلاج لفترة طويلة، وتدهور الصحة النفسية (Checchi et al., 2023).

كما ينبغي أن تشكل الإصابات الجسدية والإعاقات الناجمة عن الحرب، والأمراض والضغوط النفسية الناتجة من التعرض لويلات الحرب وصدماتها ووفاة وجرح الأقارب والأعزاء والشعور بالفقد، أولوية قصوى في أي خطة استجابة وجهود لإعادة بناء الخدمات الصحية في غزة، ذلك بأن العدد الهائل من البالغين والأطفال ذوي الإعاقة سيشكل عبئاً كبيراً على النظام الصحي والاقتصادي والاجتماعي في غزة. ويتطلب تخفيف هذا العبء، وتلبية هذه الحاجة المتزايدة للرعاية المتخصصة، توفير خدمات أساسية للمتضررين وأسرهم من حيث تأمين العلاج، والدعم النفسي والاجتماعي، والأجهزة المساعدة للمعاقين، وكذلك الإدماج في مناحي الحياة المختلفة (Najem et al., 2024, unpublished). كما يجب الانتباه، بصورة خاصة، إلى الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم وتعرضوا لليتم، وبالتالي يجب توفير حاجاتهم الجسدية والنفسية، الأمر الذي يتطلب جهداً خاصاً في تحديد هؤلاء الأطفال والتأكد من توفير السكن لهم، وإطعامهم، ومساعدة من يحتاج منهم إلى ارتداء ملابسه، وتعليمهم بشكل طبيعي قدر الإمكان، وربما النظر في لم شملهم مع من بقي من عائلات الأقارب إن أمكن، وتوفير الدعم المالي المطلوب. وهذا ينطبق أيضاً على كبار السن الذين فقدوا من يعيلهم ومن يعتني بهم.

خلاصة وتوصيات بشأن أولويات الصحة العامة في غزة

باختصار، غزة الآن في حاجة حقيقية وطارئة ولا تقبل التأجيل إلى كل مقومات الحياة، التي تم تدميرها في الحرب؛ والأولوية الأولى، والتي تُعتبر شرطاً مسبقاً لتنفيذ أي إجراءات أو تدخلات ناجحة وفعالة لحفظ الحياة والصحة، هي وقف الحرب على قطاع غزة، وانسحاب جيش الاحتلال، وفك الحصار المطبق، والسماح بحرية الحركة للتمكن من تنفيذ التدخلات الضرورية لإنقاذ السكان وحفظ حياتهم، ثم الالتفات إلى بقية الأولويات وأهمها:

أولاً، توفير المياه النظيفة الصالحة للشرب والاستعمال البشري، فعلى سبيل المثال لا إمكان للحصول على المياه النظيفة إطلاقاً في شمال غزة، ، بينما في جنوب غزة، يحصل الأطفال على ما بين 1.5 إلى 2 ليتر من الماء يومياً، وهو أقل من الحد الأدنى المطلوب لبقائهم على قيد الحياة، أي 3 ليترات، علماً بأن الحد الأدنى لكمية المياه اللازمة في حالات الطوارئ هو 15 ليتراً للشخص، والتي تشمل مياه الشرب والغسيل والطهي، بحسب المعايير الدولية الإنسانية (World Health Organization, 2024؛ OCHA Flash Update #93, 2024)، وهذا يتم عبر إعادة الضخ في الأنابيب المقطوعة من فلسطين المحتلة عام 1948 (OCHA Flash Update #97, 2024)، وإصلاح الآبار ومحطات تنقية المياه. كما أن البنية التحتية للصرف الصحي تحتاج إلى إعادة البناء على المدى المتوسط، والإصلاح على المدى القصير، ويجب إدخال الوقود اللازم لمضخات المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي، وكذلك الإدخال غير المشروط للمعدات اللازمة لإصلاح محطات تكرير ومعالجة مياه الصرف الصحي ومياه الشرب. كما ينطبق الشيء نفسه على إدارة النفايات الصلبة.

ثانياً، الإدخال غير المقيد للغذاء بأنواعه كافة، وبكميات تكفي حاجات السكان، ووجود مخزون استراتيجي مناسب، وعودة المزارعين إلى أراضيهم ومساعدتهم الفورية بالبذور والسماد والمبيدات الزراعية ومياه الري.

ثالثاً، حرية التنقل لسكان غزة، وبالتحديد السماح للجرحى والمرضى، الذين لا يستطيع النظام الصحي مساعدتهم بوضعه الحالي، بالخروج للعلاج في الخارج، وفي القدس والضفة الغربية.

رابعاً، الإدخال غير المقيد وغير المشروط للأدوية والمعدات الطبية بالكميات اللازمة، وبناء مخزون استراتيجي منها، وتخزينها بطريقة لامركزية، والسماح بدخول المتطوعين من الفرق الصحية والطبية من كل أنحاء العالم لدعم النظام الصحي، علماً بأن غزة تتمتع بموارد بشرية صحية ذات خبرة ومؤهلة، بما في ذلك العاملين في مجال الصحة العامة والمجتمعية. ومن المهم جداً الاستفادة من ذلك وتحريك الموارد لدعمهم في تنفيذ جميع وظائف الصحة العامة للحفاظ على نظام صحي مرن في الوقت الحالي وفي المستقبل. ومن الضروري العمل مع مقدمي الخدمات الصحية في غزة لإجراء تقييم سريع للاحتياجات، وممارسة الضغط للسماح بدخول جميع الإمدادات والمعدات اللازمة والموارد البشرية الصحية المتخصصة التطوعية، بما في ذلك المتخصصين بطب الحرب والطب النفسي وغيرها، واستئناف تدريب الموارد البشرية في مجال الصحة العامة وعلم الوبائيات في غزة، بما في ذلك المتطوعين المحليين الذين يقومون بدور مهم حالياً، وذلك للتكيف مع الوضع والاحتياجات الراهنة. وكذلك إعادة افتتاح وتشغيل جميع المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية ومراكز التأهيل فوراً، وترميمها وتعويض ما فقدته من أجهزة ومعدات وكوادر بشرية.

خامساً، إدخال المساعدات العينية، وخصوصاً ما يتعلق بتوفير المأوى من بيوت جاهزة وخيام توفر الحد الأدنى من السكن اللائق والخدمات المصاحبة، على أن يتم إقامة هذه المآوي في المدن والقرى والمخيمات في أماكن السكنى الأصلية للمهجرين داخلياً لتعزيز التضامن المجتمعي بين السكان. على أن يصاحب ذلك ترميم سريع للمدارس، وتوفير غرف صفية كبدائل موقتة مما تم تدميره وهدمه، واستئناف الدراسة بأسرع وقت ممكن، وخصوصاً للصفوف الابتدائية لتسهيل عودة الأطفال إلى حياتهم الطبيعية، ويتضمن ذلك تعزيز التثقيف الصحي والإرشاد الاجتماعي والنفسي في المدارس.

إن هذا الوضع يجب أن يضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وعلى رأسهم دولة الاحتلال المتسببة بهذه المعاناة المزمنة، والدول الكبرى، والدول المؤثرة في إقليم شرقي المتوسط، والمنظمات الدولية، وخصوصاً مجلس الأمن والأمم المتحدة ومؤسساتها، وبالتحديد اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية ووكالة الغوث. ولا يجب السكوت عن استمرار الحرب والإمعان في قبول الحصار، ويجب تقديم الدعم والتمويل اللازمين لوزارة الصحة والمؤسسات الأممية والدولية والمنظمات غير الحكومية لإعادة تقديم خدماتها المتوقفة كلياً أو جزئياً في شمال غزة، والمقلصة بشكل لا يلبي الحاجات الأساسية في جنوب غزة ووسطها، والعمل على تلبية حاجات السكان ضمن التوصيات المقترحة، وفي ظل وقف دائم لإطلاق النار.

 

المراجع:

  1. Checchi, F., Jamaluddine, Z., & O. M. R Campbell. War in the Gaza Strip: Public Health Situation Analysis. London: London School of Hygiene & Tropical Medicine, 2023.
  2. Elnakib, S., Fair, M., Mayrhofer, E., Afifi, M., & Z. “Pregnant women in Gaza require urgent protection”. The Lancet, 11/1/2024.
  3. Euro-Mediterranean Human Rights Monitor (Euro-Med). “New catastrophic plight in Gaza: Israel’s attacks leave more than 5,000 Palestinians disabled (Statement)”, 7/12/2023.
  4. Giacaman, R. “Reframing Public Health in Wartime: From the Biomedical Model to the ʿWounds Insideʾ”. Journal of Palestine Studies, vol. 47, no. 2, pp. 9-27 (winter 2018).
  5. Hammoudeh, W., Hogan, D., & R. Giacaman. “Quality of life, human insecurity, and distress among Palestinians in the Gaza Strip before and after the Winter 2008-2009 Israeli war”. Quality of Life Research, 22, no. 9, pp. 2371-2379 (2013)
  6. Jabr, S., & E. Berger. “Palestine meeting Gaza’s mental health crisis”. The Lancet Psychiatry (2023).
  7. Jamaluddine, Z., Checchi, F., & O. M. R. Campbell. “Excess mortality in Gaza: Oct 7-26, 2023”. The Lancet, 9/12/2023.
  8. Mataria, A., Giacaman, R., Stefanini, A., Naidoo, N., Kowal, P., & S. Chatterji. “The quality of life of Palestinians living in chronic conflict: Assessment and determinants”. European Journal of Health Economics, vol. 10, no. 1, pp. 93-101 (2009).
  9. McNeely, C., Barber, B. K., Spellings, C., Giacaman, R., Arafat, C., Daher, M., El Sarraj, E., & M. Abu Mallouh. “Human insecurity, chronic economic constraints, and health in the occupied Palestinian territory”. Global Public Health, 9, no. 5, pp. 495–515 (2014).
  10. Ministry of Health (MOH). “Annual Health Report, Palestine 2022”. Ramallah: MOH, 2023.
  11. Ministry of Health (MOH). “Daily Report of the Effects of the Israeli Aggression in Palestine”. Ramallah: MOH, 27/1/2024.
  12. Najem, M., Hammad, A., Nuwayhid, I., Afifi, R., Husseini, A., Asi, Y., Jumaan, A., & Y. Abed. “A Public Health Approach to Rebuilding Health in Gaza – A contribution from the Public Health sub-group to the Amman conference (February 7, 2024)”. The Public Health sub-group, 2024.
  13. Palestinian Central Bureau of Statistics (PCBS). “Press release on the occasion of the International Day Of Persons with Disabilities, 03/12/2023”. Ramallah: PCBS, 2023.
  14. Ziadni, M., Hammoudeh, W., Rmeileh, N. M., Hogan, D., Shannon, H., & R. Giacaman. “Sources of Human Insecurity in Post-War Situations: The Case of Gaza”. Journal of Human Security, vol. 7, no. 3, p. 23 (2011).
  15. United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA). “Hostilities in the Gaza Strip and Israel: Flash Update #93”. OCHA (2024).
  16. United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA). “Hostilities in the Gaza Strip and Israel: Flash Update #97”. OCHA (2024).
  17. United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA). “Hostilities in the Gaza Strip and Israel: Flash Update #100”. OCHA (2024).
  18. United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA). (2024). "Hostilities in the Gaza Strip and Israel: Reported Impact Day 107". OCHA (2024).
  19. United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (UNRWA). “UNRWA Situation Report #68 on the Situation in the Gaza Strip and the West Bank, including East Jerusalem”. UNRWA (2024).
  20. World Health Organization (WHO). “Lethal combination of hunger and disease to lead to more deaths in Gaza (Statement)”, 21/12/2023.

World Health Organization (WHO). “oPt Emergency Situation Update #21”. WHO (2024).

عن المؤلف

عبد اللطيف الحسيني: هو أستاذ الصحة العامة في جامعة بيرزيت (حالياً في إجازة تفرغ علمي). حاصل على الدكتوراة في علم الأوبئة والطب الوقائي من جامعة أوسلو في النرويج. شغل منصب مدير معهد الصحة العامة والمجتمعية، ومديربرنامج الماجستير في الصحة العامة في جامعة بيرزيت.