تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع الصحي: المعيار الجديد أيضاً في الضفة الغربية
المؤلف
Osama Tanous
اللغة
انجليزي
عربي
عدد الصفحات
9

على غرار الماء، والكهرباء، وسلاسل الإمدادات الغذائية، فإن قطاع الرعاية الصحية، بطواقمه البشرية وعياداته ومستشفياته وسيارات الإسعاف التابعة له ومرافقه الأُخرى، هو جزء أساسي من البنى التحتية الداعمة للحياة في المجتمعات كلها، إذ من الصعب تخيّل واقع ليس لدى المريض والمصاب فيه مكان لتلقي العلاج. وفي أوقات الحروب والنزاعات المسلحة، ولدى وجود إصابات حرب صادمة، ومع انقطاع الممارسة الطبية اليومية، يتولى نظام الرعاية الصحية دوراً أكثر محورية في إنقاذ الحياة وتقليص أضرار الحرب على المدنيين، وبالتالي، ليس من المفاجئ أن يكون العاملون في القطاع الصحي ومرافقه يحظون بحماية خاصة بموجب القانون الإنساني الدولي وقوانين الحرب.[1]

ومع ذلك، وعلى الرغم من أن عالمنا أصبح مراقباً ومرصوداً أكثر من أي وقت مضى، كما أصبحت لدى الجيوش القدرة على المحاربة بدقة متزايدة، فإن الهجمات على القطاع الصحي تستمر بلا رادع وتتزايد عالمياً،[2] بما يدفعنا إلى التساؤل، ليس عمّا إذا كانت الاعتداءات على القطاع الصحي أصبحت مدمجة في ترسانة أسلحة الحرب[3] فحسب، بل أيضاً عن جدوى آليات محاسبة الدول والأطراف من غير الدول.

لقد كانت الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل موقعاً للعدد الأكبر من الاعتداءات على القطاع الصحي خلال الأعوام الماضية،[4] ومنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ارتفع هذا العدد ارتفاعاً هائلاً؛ فخلال الإبادة في قطاع غزة، قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 595 عاملاً في القطاع الصحي، واختطف واعتقل بصورة غير شرعية أكثر من 300 عامل في الرعاية الصحية، وتم تعذيب بعضهم وقتله،[5] كما اعتدى على مستشفيات بطرق شتى، مثل قصف محيط هذه المستشفيات،[6] واجتياحها،[7] وقنصها، وحصارها، وتحويل ساحاتها الخلفية إلى مقابر جماعية.[8]

حظيت الاعتداءات على القطاع الصحي في غزة باهتمام كبير،[9] وستركز هذه الورقة على الهجمات على النظام الصحي في الضفة الغربية وهي تهدف إلى: 1) تقديم عرض ملخص عن الاعتداءات على النظام الصحي في الضفة الغربية من تاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ 2) مقارنة أنماط الاعتداءات على النظام الصحي وتباينها في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة في محاولة لرسم صورة أكثر استفاضة للهجمات الإسرائيلية على الرعاية الصحية؛ 3) اقتراح سبل إضافية لتوثيق الهجمات على القطاع الصحي والمطالبة بالمحاسبة.

1- الاعتداءات على النظام الصحي في الضفة الغربية

يفيد "نظام مراقبة الهجمات على مرافق الرعاية الصحية" التابع لمنظمة الصحة العالمية بأنه تم تنفيذ 1128 هجوماً على القطاع الصحي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بين 7 أكتوبر 2023 و5 أكتوبر 2024 (من بين 1781 اعتداء عالمياً)، أسفرت عن 779 قتيلاً و10,190 جريحاً.[10] وعلى الرغم من أن جدول المعلومات لا يتضمن خانتين منفصلتين للضفة الغربية وقطاع غزة، فإن تحديثاً للهجمات على مرافق الرعاية الصحة في الضفة الغربية في الفترة الممتدة بين 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 و30 تموز/ يوليو 2024 يفصّل 527 اعتداءً على القطاع الصحي ذهب ضحيتها 23 شخصاً، وجُرح 100، وأصيبت 365 سيارة إسعاف بأضرار و54 مرفقاً صحياً و20 عيادة متنقلة. وتتركز معظم هذه الهجمات في شمالي الضفة الغربية، في كل من طولكرم ونابلس وجنين.[11] وتبيّن الأرقام أن الاعتداءات على القطاع الصحي في الضفة الغربية هي أبعد ما تكون عن حوادث نادرة أو استثنائية، فهي منتظمة ويومية وقاتلة. وتشمل هذه الاعتداءات عرقلة وصول سيارات الإسعاف، واستخدام القوة، واعتقال العاملين في القطاع الصحي، وعمليات بحث مسلحة.

ويتم تنفيذ الهجمات على القطاع الصحي في الضفة الغربية بوسائل متعددة؛ في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2024، قام بين 10 و12 جندياً إسرائيلياً، بملابس مدنية (أحدهم يحمل عربة أطفال وآخر يجر شخصاً بكرسي متحرك) وملابس عاملين في القطاع الصحي، بمداهمة مستشفى ابن سينا في جنين،[12] حيث قتلوا 3 رجال من مسافة قصيرة. وقد حذرت مجموعات حقوق الإنسان الفلسطينية من أن إسرائيل قد حوّلت المستشفيات إلى مراكز إعدام خارج نطاق القانون. وفي 21 أيار/ مايو 2024، أردى قناص إسرائيلي الدكتور أسيد جبّارين، وهو جرّاح في الـ 51 من العمر، بينما كان يمشي نحو مقر عمله في مستشفى جنين الحكومي.[13] وفي آب/ أغسطس 2024، شنت إسرائيل عملية "المخيمات الصيفية" واجتاحت عدداً من المناطق في شمالي الضفة الغربية وفرضت عليها حصاراً، بما فيها جنين ونابلس وطولكرم. وخلال العملية، فرض الجيش الإسرائيلي حظر تجّول على مستشفى جنين الحكومي،[14] وهاجم سيارات الإسعاف، وعرقل عملها وعمل المنظمات الأهلية الدولية، مثل "أطباء بلا حدود".[15] وفي 12 أيلول/ سبتمبر 2024، داهم الجيش الإسرائيلي مستشفى حلحول الحكومي واختطف أحد المرضى. ويتعرض أفراد الكوادر الطبية والموظفون الطبيون للهجمات والمضايقات دورياً، وغالباً ما تتم عرقلة وصول سيارات الإسعاف إلى مواقع الغارات.[16]

2- امتداد للعنف الاستعماري

بينما يعيش الفلسطينيون في كل من قطاع غزة والضفة الغربية تحت الاحتلال العسكري غير المشروع والاستعمار الاستيطاني، فإن الواقع المعاش لكل منهم يختلف بشكل كبير، ويمكن لتحليل الهجمات على القطاع الصحي كأداة حرب، والفروقات بين هذه الهجمات في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، أن يرشدنا إلى تحديد الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع الصحي الفلسطيني، وأن يضيف مستوى آخر على فهمنا لكيفية قيام الاستعمار الاستيطاني، بشكل منهجي، بعطب الخدمات الصحية، وعرقلة الوصول إلى الرعاية الصحية. منذ سنة 2007، تم إخضاع قطاع غزة لحصار محكم يتحكم بتحركات البشر والبضائع والكهرباء والاتصالات، ولم يكتفِ الحصار بضرب تطور قطاع الرعاية الصحية في غزة عن طريق الإفقار وتقييد حركة المرضى والأدوية والأجهزة والعاملين الطبيين، بالإضافة إلى تقييد سفر العاملين في القطاع الصحي وفرصهم للتطور،[17] بل ترافق أيضاً مع "غلاف محيط حيوي حربي"؛[18] أربع حروب وظروف مزمنة شبيهة بظروف الحرب. وكانت الهجمات على القطاع الصحي خلال تلك الحروب تتميز بقصف العيادات والمستشفيات والمختبرات إلى جانب قتل العاملين في الحقل الطبي بواسطة القصف الجوي أو القنص بالقرب من حدود غزة، كما حصل مع رزان النجار خلال مسيرة العودة الكبرى.[19] من جهة أُخرى، وبينما يحظى الفلسطينيون في الضفة الغربية بدرجة أكبر من حرية التنقل، تتصف الحياة بمواجهات يومية مع الجنود والمستوطنين بسبب العدد الكبير من الحواجز والمستعمرات والجنود المنتشرين على الأرض. وهكذا، فإن الهجمات على القطاع الصحي تتميز بالاعتداء على سيارات الإسعاف والطواقم واقتحام المستشفيات والعيادات، بالإضافة إلى عرقلة وصول سيارات الإسعاف إلى المواقع الحرجة.

ما شهدناه خلال العام الماضي كان انتشاراً لمناورات الحرب من موقع إلى آخر، وبالتالي تغييراً في أنماط الهجمات على القطاع الصحي. ومع الغزو البري لغزة، بدأنا نرى أنماطاً من الهجمات مشابهة لتلك التي في الضفة الغربية (هجمات على سيارات الإسعاف، وعرقلة الوصول إلى الرعاية الصحية، والحصار، ومداهمة المستشفيات)، وإنما بطرق أكثر عنفاً وعلى نطاق أوسع. ففي الضفة الغربية، بات هناك اعتداءات جوية وأُخرى بالمسيرات، وهي كانت تقتصر من قبل على غزة، وفي الموقعين، ارتفع عدد الاعتداءات ارتفاعاً حاداً خلال العام المنصرم بذريعة ما يسميه كل من نيفي غوردن ونيكولا بيروغيني بـ "الحرب الطبية القانونية"،[20] فتتم مهاجمة منشآت الرعاية الصحية بحجة أنها مقار عمليات "للمجموعات الإرهابية" ودروع طبية لها.

والنمط العام الذي تمكن ملاحظته هو أنه في نطاق محاربة "مجموعات إرهابية"، وتفكيك بناهم التحتية المدنية، فإن الاعتداءات على المرافق الصحية في قطاع غزة والضفة الغربية، ومؤخراً في لبنان، أصبحت مدمجة ضمن قواعد الحرب.

3- استشراف للمستقبل

بعد أكثر من عام على الإبادة المستمرة في غزة، بات جلياً أن مرافق القطاع الصحي لا تحظى بأي نوع من الحماية،[21] وأن انتهاكات القوانين الإنسانية في أحد مواقع الحرب تنتقل بسرعة إلى المواقع الأُخرى كافة. فقد فشلت مؤسسات القانون الدولي، كما المجتمع الطبي، في المطالبة بالمحاسبة على الاعتداءات على الرعاية الطبية. وفي الوقت الحالي، يمكن للجهود الفلسطينية أن تركز على الخطوات التالية:

أ- توثيق دقيق وعلني: في حين أن لدى "منظمة الصحة العالمية" نظاماً موحداً للتبليغ عن الهجمات على القطاع الصحي، فإن التوثيق يبقى سرياً، ولا يشير إلى اسم المرفق المستهدف أو موقعه. وهو بالتالي يقلل من جدية الهجمات وأضرار المستشفيات، إذ يمكن حتى للمستشفيات المطوقة بقناصة أن تعتبر "عاملة جزئياً". ويمكن لهذه الطريقة المتبعة أن تكون منطقية من وجهة نظر شاملة هدفها ضمان السرية، لكن في السياق الفلسطيني، حيث معظم الاعتداءات تبث على الهواء، وحيث الحرب تتكشف أمام أعيننا، فمن المهم توثيق هذه الهجمات بطريقة مفصلة ومصنفة بناء على الموقع (الضفة الغربية وقطاع غزة)، وكشفها للإعلام والمؤسسات القانونية، مع مراعاة العاملين في الرعاية الطبية واحترامهم. ويشكل منبر "معهد الدراسات الفلسطينية" خطوة مهمة في هذا الاتجاه يتعين توسيعها وإدراجها ضمن أرشيف دولي معترف به عن الاعتداءات على القطاع الصحي في فلسطين.

ب- دعم إعادة التأهيل السريعة لمرافق القطاع الصحي: تعدّ إعادة الافتتاح السريعة لمستشفى الشفاء[22] بعدما حوصر وحُرق، نموذجاً بطولياً لصمود عمال الصحة الفلسطينيين وقدرتهم على إعادة إعمار القطاع الصحي المدمر واستئناف تأمين الرعاية. يجب بذل جميع الجهود الممكنة لتسهيل إعادة الافتتاح السريعة للمنشآت الطبية المتضررة كي تتمكن من استئناف أعمالها.

ج- دورات تدريبية في إجراءات دعم الحياة الأساسية: إن الوصول إلى منشآت الرعاية الصحية يصبح أكثر خطورة بالنسبة إلى الأفراد وسيارات الإسعاف. ويمكن لتنظيم ورش عمل لتدريب الفلسطينيين على إجراءات دعم الحياة الأساسية، ولاسيما في مخيمات اللاجئين، أن يكون وسيلة مفيدة لتعليم تقنيات وقف نزف الجروح، وبالتالي المساعدة في إنقاذ الحياة والأطراف حين تكون الرعاية الطبية متعذرة بعد الاجتياحات العسكرية.

د- تفعيل المجتمع الطبي الفلسطيني: الآن وأكثر من أي وقت مضى، هناك حاجة إلى مجتمع طبي فلسطيني قادر على الكتابة والتنظيم والدعوة إلى مناصرة الحق في الصحة ونشر الوعي حول الاعتداءات على الرعاية الصحية. ويمكن أن يكون لنشاطات من هذا النوع تأثيرات واسعة النطاق إذا اتحدت مع جهود المجتمع الطبي الفلسطيني الكبير في الشتات. ويمكن لمشروع مشترك أن يحقق الكثير لفضح الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع الصحي وتعبئة المجتمع الطبي الدولي.

 

[1] Y. M. Asi, O. Tanous, B. Wispelwey, and M. AlKhaldi, “Are There ‘Two Sides' to Attacks on Healthcare? Evidence from Palestine,” European Journal of Public Health, vol. 31, no. 5 (2021), pp, 927–928.

[2] Safeguarding Health in Conflict, Insecurity Insight, Critical Condition: Violence Against Health Care in Conflict, 2024.

[3] M. Heisler, P. Kovtonyuk, and C. De Vos, “Attacks on Health Care Used as a Weapon of War in Ukraine and Globally: The Demand for Accountability,” JAMA, 329, no. 12 (2023), pp. 973.

[4] F. C. Tekin and F. Selcen Öcal, “Attacks on Health Care Worldwide: 5-year Review,” Eurasian J Emerg Med, vol. 22, no. 4 (2023), pp. 211–215.

[5] The Killing, Detention and Torture of Healthcare Workers in Gaza, Healthcare Workers Watch, 2024.

[6] D. Kunichoff, D. Mills, Y. Asi, et al., “Are Hospitals Collateral Damage? Assessing Geospatial Proximity of 2000 lb Bomb Detonations to Hospital Facilities in the Gaza Strip from October 7 to November 17, 2023,” PLOS Glob Public Health, vol. 4, no. 10, (2024), p. e0003178.

[7]Y. Asi, D. Mills, P. G. Greenough, et al., “‘Nowhere and No One Is Safe': Spatial Analysis of Damage to Critical Civilian Infrastructure in the Gaza Strip During the First Phase of the Israeli Military Campaign, 7 October to 22 November 2023,” Confl Health, vol. 18, no. 1 (2024), p. 24.

[8] M. Haddad, “Mass Graves in Gaza: Evidence of Genocidal Violence,” Policy Paper, Institute for Palestine Studies.

[9] L. Hanbali, “Documenting the Targeting and Destruction of the Health Sector in the Gaza Strip”.

[10] Surveillance System for Attacks on Health Care (SSA), WHO.

[11]Impact of Attacks on Health Care in the West Bank,” WHO EMRO, 2024.

[12] J. Schwarz, “Here Are the Laws Plausibly Broken by Israel in Its Raid on a West Bank Hospital,” Intercept, 31/1/2024.

[13] F. Shalash, “Student, Teacher, Doctor, and a Playful Brother: The Palestinians Israel Killed in Jenin,” Middle East Eye, 22/5/2024.

[14] M. Barghouti, “Inside the Brutal Siege of Jenin,” 972 Magazine, 4/9/2024.

[15]Access to Medical Care at Risk in West Bank as Israeli Incursions Intensify,” MSF press release, 5/9/2024.

[16]In the West Bank, Israeli Forces Render Healthcare Inaccessible When It's Needed Most,” MSF, 13/6/2024.

[17] R. Smith, “Israel's Permanent Siege of Gaza,” MERIP Report, 290 (2019), pp. 38–42.

[18] T. Farhat, S. Ibrahim, Z. Abdul-Sater, G. Abu-Sittah, “Responding to the Humanitarian Crisis in Gaza: Damned If You Do… Damned If You Don't!,” Annals of Global Health, 89, no. 1 (2023).

[19] Y. M. Asi, O. Tanous, B. Wispelwey, and M. AlKhaldi, “Are There ‘Two Sides' to Attacks on Healthcare? Evidence from Palestine,” European Journal of Public Health, vol. 31, no. 5 (2021), pp. 927–928.

[20] N. Perugini, N. Gordon, Medical Lawfare: “The Nakba and Israel's Attacks on Palestinian Healthcare,” Journal of Palestine Studies, vol. 53, no. 1 (2024), pp. 68–91.

[21] D. Kunichoff, D. Mills, Y. Asi, et al., “Are Hospitals Collateral Damage? Assessing Geospatial Proximity of 2000 lb Bomb Detonations to Hospital Facilities in the Gaza Strip from October 7 to November 17, 2023,” PLOS Glob Public Health, vol. 4, no. 10, (2024), p. e0003178.

[22]Health Ministry Reopens Reception and Emergency Department at Al-Shifa Medical Complex,” Middle East Monitor, 2/9/2024.

1

عن المؤلف

أسامة طنوس: طبيب أطفال وباحث في مجال الصحة العامة مقيم في حيفا. وهو المدير المشارك لبرنامج فلسطين للصحة وحقوق الإنسان، ومفوض في لجنة " O'Neill Lancet" حول العنصرية والتمييز الهيكلي والصحة العالمية.