مقال رأي18 نوفمبر/تشرين الثاني 2024
بقلم: إيزابيل ديفورني، رئيسة أطباء بلا حدود فرنسا
كريستوفر لوكيير، أمين عام أطباء بلا حدود
زرنا غزة في أوقات مختلفة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وشهدنا قدرًا من المعاناة يتجاوز الخيال هناك، ويشمل ذلك منطقة أعلنت إسرائيل من جانب واحد أنها منطقة "إنسانية" في حين أنها تهاجمها بانتظام. ومع ذلك، أخبرنا زملاؤنا أن الوضع أسوأ في الشمال – وهي منطقة لم نتمكن من الوصول إليها. وفي الآونة الأخيرة، أصبح الوضع هناك كابوسًا.
منذ أسابيع، يواجه الناس في مناطق بيت حانون وجباليا وبيت لاهيا في شمال غزة واحدة من أكثر الهجمات وحشية وعنفًا منذ بداية الحرب. تتعرض المنطقة لقصف شديد من قبل القوات الإسرائيلية التي اختارت مرة أخرى مهاجمة مناطق بأكملها من دون تمييز، وهو ما أسفر عن حصول خسائر مدنية هائلة، بينما تصدر في الوقت نفسه أوامر إجلاء لا يمكن تنفيذها، إذ يقال أنّ الكثير من الأشخاص الذين يحاولون المغادرة يتعرضون للاعتقال التعسفي الجماعي، بينما يتعرض كثر غيرهم لإطلاق النار والقصف أثناء محاولتهم الفرار. ولا تدل حقيقة أن أوامر الإجلاء بدأت تصدر بعد 48 ساعة من بدء العملية العسكرية في مخيم جباليا للاجئين، وهو جزء من المنطقة المعرضة للهجوم، إلا على أن القوات الإسرائيلية لم يكن لديها نية للنأي بالمدنيين وأن هذه التحذيرات هي مجرد تحذيرات تجميلية.
لا يزال بعض زملائنا وأفراد أسرهم محاصرين في هذه المناطق ويشهدون هذه اللاإنسانية بشكل مباشر. إنهم مرعوبون ويخشون على حياتهم، ولخوفهم سبب معتبر: ففي 10 أكتوبر/تشرين الأول، قُتل زميلنا ناصر حمدي عبد اللطيف الشلفوح بشكل مأساوي بسبب إصابات بشظايا في ساقيه وصدره في جباليا. وبعد بضعة أيام، في 14 أكتوبر/تشرين الأول، أصيب اختصاصي علاج طبيعي في منظمة أطباء بلا حدود مع ابنه بعد إصابتهما بشظايا. وفي 24 أكتوبر/تشرين الأول، قُتل حسن صبح، وهو عامل متخصص في أطباء بلا حدود، في هجوم إسرائيلي على المبنى الذي كان يقيم فيه مع أقاربه في خان يونس، بجنوب غزة. ويعدّ ناصر وحسن الزميلين السابع والثامن من أطباء بلا حدود اللذين قتلا في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لا تدل حقيقة أن أوامر الإجلاء بدأت تصدر بعد 48 ساعة من بدء العملية العسكرية في مخيم جباليا للاجئين، وهو جزء من المنطقة المعرضة للهجوم، إلا على أن القوات الإسرائيلية لم يكن لديها نية للنأي بالمدنيين وأن هذه التحذيرات هي مجرد تحذيرات تجميلية.إيزابيل ديفورني، رئيسة أطباء بلا حدود فرنسا وكريستوفر لوكيير، أمين عام أطباء بلا حدود
بعد أسبوعين من الحصار الكامل، تسمح القوات الإسرائيلية الآن لبعض الشاحنات بشحن الإمدادات الإنسانية داخل شمال غزة، لكنها لا تزال تمنع وصول المساعدات إلى المنطقة بكميات مجدية، مما يؤدي فعليًا إلى قطع إمدادات الحياة عن آلاف الأشخاص.
كذلك، تخضع المستشفيات لأوامر الإخلاء أو للهجوم المباشر. فمنذ أوائل أكتوبر/تشرين الأول، حاصرت القوات الإسرائيلية المستشفيات الرئيسية الثلاثة - الإندونيسي والعودة وكمال عدوان - وورد أنّ مئات المرضى كانوا داخلها، ولم يكن بإمكان منظمة الصحة العالمية ومنظمات أخرى إجلاء سوى نحو 60 منهم فقط إجلاءً طبيًا في قافلتين منفصلتين، بعد محاولات فاشلة متكررة.
وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول، وصف أحد أفراد طاقمنا الطبي الذي اتّخذ لنفسه مأوى داخل مستشفى كمال عدوان المحاصر الوضع في الداخل بأنه كارثي، مع وجود عدد هائل من المرضى ونقص حاد في الإمدادات الطبية أو المعدات اللازمة لعلاجهم. كان ذلك قبل أن يتعرض المستشفى للهجوم والاقتحام من قبل القوات الإسرائيلية بين 25 و 28 أكتوبر/تشرين الأول.
تتعرض البنى التحتية الطبية للتعطيل أو باتت تعمل جزئيًا فقط وتفتقر إلى إمكانية علاج المصابين، وخصوصًا المصابين بجروح خطيرة والذين لا ينتظرهم سوى الموت، إذ سمعنا قصصًا مروعة عن مرضى يموتون بسبب نقص الكهرباء. وخلال أسبوع 14 أكتوبر/تشرين الأول، أجرت فرقنا التي تدير عيادة في مدينة غزة 858 استشارة، بما في ذلك 225 إصابة بالغة و 98 حالة حروق؛ بزيادة قدرها 52 في المئة مقارنة بالأسبوع السابق، ولذلك صلة بوصول النازحين من شمال غزة.
بعد أسبوعين من الحصار الكامل، تسمح القوات الإسرائيلية الآن لبعض الشاحنات بشحن الإمدادات الإنسانية داخل شمال غزة، لكنها لا تزال تمنع وصول المساعدات إلى المنطقة بكميات مجدية.إيزابيل ديفورني، رئيسة أطباء بلا حدود فرنسا وكريستوفر لوكيير، أمين عام أطباء بلا حدود
وبينما تبدو الهجمات على شمال غزة قاسية بشكل خاص، إلا أنها تظهر بمثابة استمرار منطقي للاستراتيجية التي اعتمدتها القوات الإسرائيلية حتى الآن في غزة. فمنذ بداية الحرب ردًا على المجزرة الوحشية التي ارتكبتها حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شاهدنا في رعب إذ بدأت القوات الإسرائيلية حملة قصف عشوائية وإصدار أوامر إخلاء مبنية على كذبة وجود "مناطق آمنة"، حيث يمكن للمدنيين إيجاد مأوى من العنف.
طوال حملة الموت والدمار الإسرائيلية، ظهر نمط واضح من العنف الذي لا يمكن تصوره: يُطلب من الناس في غزة اتخاذ خيار مستحيل بين البقاء في تحدٍ لأوامر الإخلاء، ليصبحوا كأهداف مشروعة ويُقتلوا؛ أو المغادرة مخاطرين بحياتهم سواء كان ذلك أثناء رحلتهم أو في الوجهة الجديدة – من دون أي أمل في السماح لهم بالوصول إلى وجهة آمنة حقًا خارج القطاع، حيث تم إغلاق جميع معابر غزة منذ مايو/أيار 2024. لقد طالبنا مرارًا وتكرارًا بإعادة فتح نقاط العبور هذه مصحوبة بضمانات بمنح حق العودة للسكان.
وبعبارة أخرى، يقدم الجيش الإسرائيلي وهم الاختيار لسكان يُقتلون في الواقع أو يُمنعون ببساطة من الحصول على الاحتياجات الأساسية.
خلال الأسابيع الماضية، كانت الأحاديث في غزة محتدمة حول وجود ما يسمى "خطة الجنرالات" أو "خطة إيلاند" ضمن القوات الإسرائيلية، وهي خطة تقوم على محو الفلسطينيين من الجزء الشمالي من غزة إما عن طريق قتلهم أو إجبارهم على الخروج أو تجويع أولئك الذين يبقون حتى الموت. إن الطريقة التي يتم بها شن الهجوم المستمر في الشمال واللغة اللاإنسانية التي تبنتها السلطات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، تعزز فكرة أننا نشهد تنفيذ هذه الخطة.
بينما تبدو الهجمات على شمال غزة قاسية بشكل خاص، إلا أنها تظهر بمثابة استمرار منطقي للاستراتيجية التي اعتمدتها القوات الإسرائيلية حتى الآن في غزة.إيزابيل ديفورني، رئيسة أطباء بلا حدود فرنسا وكريستوفر لوكيير، أمين عام أطباء بلا حدود
تتراكم الفظائع على مستوى مختلف عن أي شيء رأيناه خلال تجربتنا العملية مع أطباء بلا حدود في بعض الأزمات الإنسانية الأكثر حدة في العقود الماضية. فقد قتلت إسرائيل أكثر من 43,000 شخص، من بينهم نحو 14,000 طفل، وأصابت أكثر من 100,000، وفقًا للسلطات الصحية في غزة. وشهدت فرقنا الطبية بشكل مباشر فظائع حملة القصف التي لم تهدأ، والأطفال الذين يصابون بحروق في جميع أنحاء أجسادهم ووجوههم، وكثير منهم قد تهشمت أطرافهم بعد أن دُفنوا تحت الأنقاض لساعات، وآخرين اضطروا إلى الخضوع لعمليات البتر من دون تخدير، وجثامين الموتى التي تُجلب إلى مرافقنا الطبية إذ لم يكن من الممكن إنقاذهم.
لقد فشلت القوات الإسرائيلية مرارًا وتكرارًا في النأي بسكان غزة واستمرت في إبادة القطاع، مما جعله غير صالح للسكن. وقد كنا نُصدم بحجم الدمار خلال زياراتنا حتى لو توقعنا الأسوأ: المنازل وشبكات المياه والكهرباء والمدارس والجامعة والمساجد والكنائس والمستشفيات والسجلات العامة والمواقع التاريخية، أكثر من 66 في المئة من المباني القائمة، وفقًا للأمم المتحدة. كما أخبرنا بعض زملاء أطباء بلا حدود البالغ عددهم 800 في غزة كيف دمر الهجوم الإسرائيلي الحياة الاجتماعية والطفولة وآمالهم وحتى ذكرياتهم، فقد دُمرت الأشياء والصور وغيرها مما يربطهم بماضيهم، فجميع مكونات المجتمع قد دُمّرت.
وفي يناير/كانون الثاني 2024، أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل بالكف عن قتل الفلسطينيين، وإنهاء النزوح القسري من ديارهم، وضمان الوصول إلى المساعدات الإنسانية، واتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لإنهاء تدمير الحياة في غزة. بعد مرور عشرة أشهر، لم يتم بذل أي جهد ملموس لمنع حدوث إبادة جماعية. بل على العكس، تواصل القوات الإسرائيلية قتل الناس بالعشرات وعرقلة إيصال المساعدات عن عمد. أما تصويت الكنيست على حظر الأونروا فيعدّ أحدث ضربة مدمرة لقدرات توفير الإغاثة للفلسطينيين. ينبغي على إسرائيل التوقف عن تجاهل حكم محكمة العدل الدولية بشكل صريح، وينبغي على حلفائها أن ينهوا دعمهم لحملتها التي تهدف إلى تدمير الفلسطينيين في غزة.