تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

يقف المسعفون كخط دفاع أول لإنقاذ الأرواح في ظل الإبادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من 18 شهراً في غزة، مقدّمين تضحيات جسيمة في سبيل أداء واجبهم الإنساني، إلاّ إن استهدافهم المباشر من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي أصبح ظاهرة متكررة تثير القلق، الأمر الذي يعرّض المنظومة الصحية بأكملها للخطر. ويعَد استهداف الطواقم الطبية انتهاكاً صارخاً للمادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة، والتي تنص على حماية الوحدات الطبية في أثناء النزاعات المسلحة. كما أن البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 يجرّم أي اعتداء على المستشفيات وسيارات الإسعاف والطواقم الطبية، ما لم تُستخدم في أعمال عدائية. وفي الحالة الفلسطينية، لا توجد أدلة موثقة من أي جهة مستقلة تفيد باستخدام سيارات الإسعاف لأغراض عسكرية، وهو ما ينسف ذرائع الاحتلال ويكشف زيف ادعاءاته.

وفي صباح 23 آذار/مارس، تلقّى مكتب الهلال الأحمر في خان يونس نداء استغاثة يفيد بوجود جرحى من السيدات جرّاء قصف عنيف من جيش الاحتلال الإسرائيلي استهدف عدة منازل في حي الحشاشين في رفح، فانطلقت إحدى سيارات الإسعاف المزوّدة بالشارات المميزة بالصليب الأحمر، وعلى متنها مسعفان وسائق، جميعهم يرتدون زيهم البرتقالي المخصص، متوجهين إلى الموقع المستهدَف.

لكن ما كان ينتظرهم لم يكن إنقاذاً، إنما كان كميناً محكماً؛ إذ تعرضت السيارة لوابل من الرصاص من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل أن تصل حتى إلى الموقع. وعلى الرغم من استمرار إنارة السيارة وتشغيل صفارات الإنذار التي توضح هويتها كإسعاف، فقد تصاعدت وتيرة إطلاق النار، وأُصيب السائق وأحد المسعفين واستشهدا فوراً، بينما نجا المسعف منذر عابد لأنه انبطح على الكرسي الخلفي للسيارة، متفادياً الرصاص.

ولم يكتفِ الجنود بذلك، إنما واصلوا إطلاق النار حتى اقتربوا من السيارة، وفتحوا أبوابها، وسحبوا منها منذر عابد بعد أن أكد لهم أنه مسعف تابع للهلال الأحمر، ليحولوه إلى درع بشري، في ممارسة مخالفة تماماً لأبسط مبادئ حقوق الإنسان.

وبعد ساعات، هُرعت فرق إسعاف أُخرى مكوّنة من أكثر من 13 مسعفاً، بينهم موظف في وكالة الأونروا و8 من طواقم الهلال الأحمر، لإنقاذ زملائهم، لكن بمجرد وصولهم إلى المكان، تعرضوا لنيران مكثفة من جانب جنود الاحتلال، وهو ما أدى إلى استشهاد معظمهم، وإصابة البعض الآخر بجروح خطِرة. ووفقاً لشهادات الناجين، فقد قام الجنود بتقييد بعضهم وهم ينزفون، وألقوا بهم في حفرة، ثم دفنوهم في مقبرة جماعية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد جمعوا سيارات الإسعاف، ودهسوها بالدبابات، وحطموها بالجرافات، ثم دفنوها تحت الرمال، في مشهد يصعب تصديقه إلاّ عند رؤيته.

أمّا المسعف الناجي منذر عابد، فقد تعرّض للتنكيل والتعذيب والشتائم، وسب الذات الإلـٰهية، كما أطلقوا عليه الكلاب البوليسية، وأجبروه على المساعدة في "فرز" الناس الذين أُجبروا على النزوح من مدينة رفح؛ إذ تم تقسيمهم إلى مجموعتين: الأولى الرجال والمسنون إلى جهة اليمين، والثانية النساء إلى جهة اليسار. وبحسب شهادته، فقد كان النساء يحملن أبناءهن الشهداء والمصابين بأذرعهن وسط مشاهد مأساوية تخترق القلوب، فمنهن امرأة تحمل طفلتها الشهيدة، وأُخرى تحتضن طفلاً مصاباً إصابة خطِرة في صدره.

وكان الجيش يمرر النساء جماعات من عشر نساء في كل مرة للخروج من المدينة عبر الحاجز، بينما الرجال يُمرَرون خمسة بخمسة، ويجبَر الكثير منهم على خلع ملابسه بالكامل وارتداء ملابس بيضاء، قبل أن يُجمعوا في حفرة مكبّلي الأيدي، ومعصوبي الأعين، استعداداً لاعتقالهم.

ولاحقاً، نُقل منذر عابد إلى المعتقلات الإسرائيلية، حيث فوجئ بوجود زميله المسعف أسعد النصاصرة مجرَداً من ملابسه أيضاً. وبقي منذر محتجَزاً 15 ساعة، قبل أن يفرج عنه ضابط من الشاباك الإسرائيلي بعدما أكد له أنه "نظيف في الفحص الأمني."

وبعدها، حاولت الطواقم الطبية الوصول إلى مكان المجزرة، لكن الجيش الإسرائيلي عرقلهم ومنعهم لأيام. وبعد مرور أسبوع كامل، تمكنوا من الوصول، ليكتشفوا أن أغلب جثث زملائهم قد بدأت في التحلل، إذ دُفنوا بلا أي احترام أو مراعاة لأدنى معايير الإنسانية.

ادعى جيش الاحتلال لاحقاً، كما هي عادته، أنه استهدف "15 مسلحاً" في منطقة قتال في رفح، إلاّ إن هذه الرواية سرعان ما تم نفيها بعد العثور على هاتف محمول في جيب أحد الشهداء من الطواقم يحتوي على فيديو يوثّق المجزرة كاملة، صورها بنفسه قبيل استشهاده. وانتشر الفيديو كالنار في الهشيم، ليُكشف زيف الرواية الإسرائيلية، ويؤكَّد أن الضحايا جميعهم كانوا من المسعفين، فكان مبررهم للجريمة أن سيارات الإسعاف دخلت من دون تنسيق سابق معهم، على الرغم من أنهم لم يصدروا تحذيراً مسبقاً بأن المنطقة منطقة قتال.

وفي الوقت الذي تُختزل فيه أرواح الطواقم الطبية بأرقام في نشرات الأخبار، لا بد أن نتذكر أن كل رقم هو قصة، وحياة فُصلت عن أهلها ظلماً. هؤلاء المسعفون ممن قضوا نَحْبَهُمْ، وأولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة، يستحقون أن يروى عنهم، وأن يطالَب لهم بالعدالة.

وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها المسعفون في غزة للاستهداف، إنما تأتي هذه ضمن سلسلة طويلة من الاعتداءات الممنهجة منذ بداية العدوان الإسرائيلي على القطاع؛ ففي حرب 2014، وثّقت منظمات حقوقية، كهيومن رايتس ووتش، وأطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل، استهدافاً مباشراً لـ 23 منشأة طبية، و50 من العاملين الصحيين. هذا التكرار يشير إلى سياسة ممنهجة أكثر من "أخطاء عسكرية" كما يدّعي الاحتلال.

وما كان للمحتل أن يستمر في ارتكاب هذه الجرائم لولا الصمت الدولي المريب، فبحسب تقرير وزارة الصحة الفلسطينية، فقد استهدف الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة على غزة أكثر من 60 سيارة إسعاف، و160 مؤسسة صحية، واستشهد أكثر من 1060 من الطواقم الطبية منذ بدء حرب الإبادة الجماعية، واعتُقل أكثر من 380 من الأطباء والممرضين والمسعفين، وبعضهم استشهد تحت التعذيب، كالدكتور عدنان البرش، رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء، وأحد أعمدة الطب في غزة، وصاحب مبادرات تعليمية وتدريبية للكوادر الشابة؛ إذ اعتُقل في أثناء تادية عمله في مستشفى كمال عدوان، وتعرض لتعذيب شديد أفضى إلى وفاته، ولم تسلَّم جثته إلى عائلته، ولم يُسمح بتشريحها، ولم يَصْدُر أي تحقيق دولي في قضيته حتى اللحظة.

ولم يكتفِ الاحتلال بذلك، بل أيضاً واصل استهداف الجرحى والمرضى، وقصْف المستشفيات، وتدمير مراكز الرعاية الصحية، وقطْع الإمدادات الطبية. ففي نهاية آذار/مارس، استهدف مبنى الجراحة في مستشفى ناصر، وأحرق الطبقة الثانية، وهو ما أدى إلى استشهاد عدد من الأطباء والجرحى والمرضى. وسبق ذلك تدمير مستشفى الصداقة التركي ونسفه، ومجمع الشفاء الطبي - أكبر منشأة طبية في فلسطين - ومستشفى الرنتيسي للأطفال، ومستشفى النصر، ومستشفى كمال عدوان، والمستشفى الإندونيسي وغير ذلك. وفي كل مرة، يتعمد جيش الاحتلال تخريب الأجهزة الطبية والمعدات والمولدات الكهربائية.

ما يحدث في غزة يتجاوز مجرد استهداف الطواقم الطبية؛ إنه اعتداء شامل على حق الحياة، وعلى مفهوم الإنسانية ذاته. وتوثيق هذه الجرائم ليس فقط من أجل سرد المأساة، بل أيضاً من أجل صوغ سجل قانوني وتاريخي يمكن استخدامه في محاكمات دولية مستقبلية. ومن دون ضغط دولي حقيقي، فستبقى هذه الجرائم بلا عقاب، وسيتواصل مسلسل استهداف مَن قرروا أن يكونوا في الصف الأول لإنقاذ الأرواح.

 

المراجع

promoted_date
publication year
2025
promoted_image
Paper's Language