تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
"الإبادة الصحية" في غزة والقانون الدولي: حان الوقت لحظر قصف المستشفيات ومهاجمتها
المؤلف
نيكولا بيروجيني
نيف غوردون
سنة النشر
اللغة
عربي
عدد الصفحات
11

شنت إسرائيل حملة إبادة جماعية في أعقاب هجوم "حماس" على قواعد عسكرية وكيبوتسات وبلدات إسرائيلية ومهرجان نوفا الموسيقي الذي أسفر عن مقتل 1139 شخصاً بما في ذلك 375 من أفراد الأمن الإسرائيلي و764 مدنياً، بينهم 36 طفلاً واحتجاز 240 شخصاً رهائن. وحتى أيلول/سبتمبر 2024، قصف الجيش الإسرائيلي ودمر أحياءً بكاملها، واحتلت قواته البرية ودباباته القطاع، وهو ما أسفر عن مقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني، منهم أكثر من 15 ألف طفل (بالإضافة إلى عدد لا يحصى ممن طُمروا تحت الأنقاض). وأصيب أكثر من 85 ألفاً من السكان بجروح ونزح معظم السكان من منازلهم؛ فقد اضطُر عدد كبير من المدنيين منذ ذلك الحين إلى النزوح مرة تلو اُخرى.[1] وعدا عن قتل الآلاف من المدنيين وتشريدهم، دمرت إسرائيل البنية التحتية والمرافق الأساسية لدعم مقومات الحياة وإنقاذ الأرواح في جميع أنحاء قطاع غزة، كما استهدفت حملة القصف الإسرائيلي المستشفيات والعيادات وسيارات الإسعاف مراراً وتكراراً.

ومنذ بداية حملتها الانتقامية، نفذت إسرائيل ما يقرب من 500 هجوم على مرافق الرعاية الصحية في غزة وموظفيها، فيما يُصنف على أنه "إبادة صحية"، وهو ما نعرِّفه بأنه تدمير نظام الرعاية الصحية، كلياً أو جزئياً، بهدف إزالة مستلزمات إنقاذ حياة المرضى والجرحى والحفاظ عليها، أو إلحاق ضرر جسيم بها. وقُتل وأصيب عدة آلاف من المدنيين في هذه الهجمات، بينهم أطباء وممرضون ومساعدون طبيون وسائقو سيارات إسعاف. ونتيجة لذلك توقف نحو ثلثي المستشفيات عن العمل، أمّا تلك التي ما زالت مفتوحة فلم يعد لديها سوى قدرة محدودة على تقديم الخدمات بسبب نقص الوقود والأدوية والمستلزمات الطبية والغذاء. ولم يعد لدى مرضى غسيل الكلى والسرطان، وأيضاً لدى النساء الحوامل، مكان يذهبون إليه لتلقي العلاج. وعلاوة على ذلك، يعجز الجرحى في أكثر الأحيان عن الوصول إلى المستشفيات التي ما زالت تعمل، لأن خدمات الإسعاف دُمرت بالكامل تقريباً.[2]

إن عمليات التدمير الواسعة النطاق للبنية التحتية الطبية التي تمارسها إسرائيل في غزة ليست بالأمر الجديد، وإنما كانت على الدوام جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيات الحرب التي تنتهجها ضد الفلسطينيين.[3] فخلال الهجوم على غزة في الفترة 2008-2009، دمر الجيش الإسرائيلي 58 مستشفى وعيادة، أو ألحق أضراراً بها، بالإضافة إلى تدمير أو إعطاب 29 سيارة إسعاف، كما قتل 16 من الأطباء والعاملين الصحيين، وأصاب 25 آخرين بجروح.[4] وفي حملة عام 2012، كانت حملة التدمير أضيق نطاقاً، لكنها شملت مع ذلك 16 مستشفى وعيادة أو ألحقت بها أضراراً، فضلاً عن تدمير أو إعطاب 6 سيارات إسعاف، وإصابة ثلاثة من العاملين في المجال الصحي بجروح. ومن جديد، وبعد عامين من ذلك دمر الجيش الإسرائيلي، أو خلّف أضراراً في 73 مستشفى وعيادة و45 سيارة إسعاف، وقتل 23 من العاملين في المجال الصحي، وأصاب 76 آخرين بجروح.[5] وفي حملته العسكرية عام 2014، لجأ الجيش الإسرائيلي أيضاً إلى تنفيذ ما يُسمى "الضربات المزدوجة" و"الضربات المتتالية المتعددة" على موقع واحد، ما أدى إلى زيادة أعداد القتلى والجرحى بين المدنيين فضلاً عن مقتل وإصابة أول مَن هرعوا إلى الموقع للإسعاف أو انتشال الضحايا.[6] ثم في أيار/مايو 2021، ألحقت الغارات الجوية الإسرائيلية أضرارا في 33 مركزاً للرعاية الصحية، بما في ذلك المختبر الرئيسي في غزة لفحوصات كوفيد-19، وقتلت اثنين من كبار الأطباء على الأقل.[7] وبين كانون الأول/ديسمبر 2008 وأيار/مايو 2021، نفذت إسرائيل 180 غارة على المستشفيات والعيادات الطبية وسيارات الإسعاف في قطاع غزة. وقد وقعت هذه الهجمات بينما سعى المئات، وفي بعض الأحيان الآلاف، من الفلسطينيين الجرحى إمّا للحصول على العلاج الطبي العاجل في المستشفيات والعيادات، وإمّا للاحتماء في مبانيها. وخلال دورات العنف الخمس التي اندلعت من عام 2008 حتى عام 2023، وجه الجيش الإسرائيلي ضربات مدمرة لخدمات الرعاية الصحية الفلسطينية التي كانت تعاني من نواقص شديدة بسبب أشكال متعددة من العنف البنيوي على مر عشرات السنين.

وتحظى المستشفيات بالحماية بموجب قوانين النزاع المسلح (LOAC)؛ تنص المادة 12 من البروتوكول الإضافي الأول – وهي المعاهدة الأكثر حزماً التي تنظم استخدام العنف في أثناء النزاع المسلح - على أنه "يجب احترام الوحدات الطبية وحمايتها في جميع الأوقات ولا يجوز أن تكون هدفاً للهجوم."[8] ولدى تحليل هذا البند وغيره من البنود والأحكام المنصوص عليها في قانون النزاعات المسلحة، يتجلى بوضوح أن هذا القانون يتبع نمطاً متكرراً من الحماية يليه استثناء لتلك الحماية. وفي الفقرة الرابعة من المادة 12، على سبيل المثال، يتم تقييد الأمر القطعي بحماية الوحدات الطبية من خلال إضافة استثناءين: "لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف استخدام المنشآت الطبية كوسيلة لحماية الأهداف العسكرية من الهجوم. ويجب على أطراف النزاع، كلما أمكن، الحرص على أن تكون الوحدات الطبية في مواقع لا تعرض سلامتها للخطر بسبب الهجمات على الأهداف العسكرية."[9] وبعبارة أُخرى، هناك حالتان قد تفقد فيهما المنشأة الطبية حمايتها وتصير عرضة للهجمات: إذا حمت مقاتلين أو أخفت أسلحة، وإذا وقعت بالقرب من هدف عسكري (لأنها قد تستخدم لحماية مصنع للذخيرة أو قاعدة عسكرية أو موقع لإطلاق النار وما إلى ذلك). وتوضح اللجنة الدولية للصليب الأحمر في تعقيبها أن "وضع وحدة طبية عمداً في وضع من شأنه أن يعيق هجوم العدو" كافٍ لفقدانها الحماية، شريطة أن يلتزم طرف النزاع بمبادئ التناسب والضرورة العسكرية والحذر.[10]

وتضيف المادة 13 استثناءً ثالثاً، إذ تنص على أن "الحماية التي تحظى بها الوحدات الطبية المدنية لا ينبغي أن تتوقف إلاّ إذا استُخدمت لارتكاب أعمال ضارة بالعدو خارج نطاق وظيفتها الإنسانية."[11] ووفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن من بين الأعمال التي يمكن أن تلحق الأذى، على سبيل المثال، استخدام المستشفى كمأوى للمقاتلين الأصحاء أو الهاربين، أو كمخزن للأسلحة أو الذخيرة، أو كمركز مراقبة عسكري؛ ومن الأمثلة الأُخرى، وضع وحدة طبية عمداً في موقع من شأنه أن يعيق هجوم العدو. لكن ما يشكل أعمالاً "ضارة بالعدو" يظل خاضعاً للتفسيرات المتعددة، ويمكن للأطراف المتحاربة توسيعه على نحو كبير، بدءاً من استخدام المقاتلين المرفق الطبي للاختباء فيه، إلى قيام مقاتل مريض بإجراء مكالمة من هاتفه.[12] ويشير تعقيب اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أنه لا يمكن "رفع الحماية إلاّ بعد توجيه تحذير مناسب في غضون فترة زمنية معقولة وفي ظل عدم الامتثال لذاك التحذير."[13] لكن هذا التفسير لا يشير إلى أن مفهوم "الوظيفة الإنسانية" ليس بديهياً، وأن الأطراف المتحاربة تعترض أيضاً على الطبيعة الإنسانية لبعض الأعمال والممارسات. ‎

تبرير الهجمات على المنشآت والمرافق الطبية

لتبرير هجماتها على المرافق الطبية، استشهدت إسرائيل بالاستثناءات القانونية، وخصوصاً تلك المتعلقة باستخدامها دروعاً للاحتماء بها.[14] فقد ادعت أن "حماس" بنت ما يُقدّر بمئات الكيلومترات من الأنفاق تحت الأرض في قطاع غزة وأن جميع السكان - أي جميع الفلسطينيين في القطاع - والمواقع المدنية فوق هذه الأنفاق هي في الواقع دروع بشرية. وقبل اقتحام مجمع الشفاء الطبي، وهو أكبر مستشفى في قطاع غزة، في المرة الأولى، لجأ الجيش الإسرائيلي إلى شن حرب معلوماتية في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2023، ونشر هذه المرة على منصة "إكس" (تويتر سابقاً) مقطع فيديو لمستشفى نموذجي ثلاثي الأبعاد الهدف منه تصوير كيف يُستخدم مستشفى الشفاء كدرع بشرية، على نحو قابل للتصديق. في البداية يرى المشاهد جناحاً طبياً عادياً، لكن بعد ذلك تنتقل الكاميرا تحت الأرض وتعرض صور "المقر الرئيسي لقيادة ʾحماسʿ"، مصورة أن مركز قيادة الحركة يقع في أنفاق تحت المستشفى مباشرة.[15] ويستخدم هذا المقطع حجة استخدام المستشفى كدرع بشرية كمبرر لقصف المستشفى على أساس مبدأ التناسب الذي يفترض أن تتجاوز الميزة العسكرية المتوقعة الضرر المدني المتوقع، والدفاع الاستباقي القانوني.[16]

وفي أعقاب مزاعم استخدام المستشفى كدرع بشرية، كما ورد في مقطع الفيديو وفي تصريحات المتحدث العسكري، داهمت القوات الإسرائيلية مجمع الشفاء في 15 تشرين الثاني/نوفمبر. في ذلك الوقت، كان 650 مريضاً يتلقون العلاج في المستشفى، وما يقدر بنحو 7000 نازح يحتمون في حرمه.[17] وقال الجيش الإسرائيلي على منصة "إكس" إنه "ينفذ عملية دقيقة ومستهدفة ضد ʾحماسʿ في منطقة محددة في مستشفى الشفاء ... بقصد عدم إلحاق أي ضرر بالمدنيين الذين تستخدمهم ʾحماسʿ دروعاً بشرية."[18]

واستمرت إسرائيل في استخدام مزاعمها بتحويل المستشفيات إلى "دروع بشرية"، مراراً وتكراراً، في الأشهر اللاحقة، في سياق حملتها لتدمير معظم المستشفيات في قطاع غزة، أو إلحاق أضرار جسيمة بها. لقد تعرض مجمع الشفاء الطبي للهجوم عدة مرات ودُمر بينما تحولت أرضه إلى مقبرة جماعية. وبالتالي، تحولت البنى التحتية المناط بها إنقاذ حياة الفلسطينيين وتوفير الدعم لهم إلى مساحات تُرك فيها المرضى والجرحى من دون رعاية، أو قُتلوا في غارات نفذتها طائرات إف-16 الحربية الإسرائيلية والمُسيَّرات والمروحيات الرباعية والقناصة. لقد بررت إسرائيل تدمير نظام الرعاية الصحية في غزة بالاستعانة بالأحكام التي تتناول حظر تحويل مثل هذه الأماكن إلى دروع بشرية، بينما تجاهلت الآلاف وربما مئات الآلاف من المرضى والجرحى الفلسطينيين الذين سيموتون حتماً جراء تدمير النظام الصحي.

في الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي لتطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية على الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، أشارت جمهورية جنوب أفريقيا إلى أن "الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على نظام الرعاية الصحية الفلسطيني في غزة تفرض عمداً على الفلسطينيين في غزة ظروفاً معيشية صممت على نحو مدروس لتدميرهم كمجموعة."[19] وفي مواجهة هذه الاتهامات، ركز الدفاع الإسرائيلي على مزاعم الدروع البشرية. وفي مستهل مرافعته، زعم المحامي الذي يمثل إسرائيل أن مقاتلي "حماس" والجهاد الإسلامي تغلغلوا بين السكان المدنيين، مستخدمين المنشآت المدنية ليس كملاجئ، لكن كبنية أساسية "لأكثر معاقل الإرهاب تطوراً في تاريخ حرب المدن."[20] كما زعم الفريق القانوني الإسرائيلي أن "حماس" مسؤولة عن مقتل المدنيين وتدمير المواقع المدنية، بما في ذلك المستشفيات والعيادات وسيارات الإسعاف، بسبب "استراتيجيتها المشينة المتمثلة في السعي إلى تعظيم الضرر الذي يلحق بالمدنيين" من خلال اختلاط مقاتليها بالسكان في المواقع المدنية، بما في ذلك المرافق الصحية. وذهب الفريق القانوني الإسرائيلي إلى تصوير كل إنسان وكل بنية تحتية مدنية في غزة على أنها يُمكن أن تشكل درعاً بشرية.

هذا النهج الدفاعي يأتي تتويجاً لعمل قانوني امتد عقوداً من الزمن فسرت من خلاله الفرق القانونية الإسرائيلية أحكام القانون الإنساني الدولي بطريقة توفر "التمويه الإنساني" للجيش بهدف إخفاء جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل.[21] وفي إحدى محاولاتها لتبرير الضرر الذي يلحق بالمدنيين والأهداف المدنية، بما في ذلك المرافق الطبية، جادلت وزارة الخارجية الإسرائيلية في أنه "لا يمكن الاستنتاج من مجرد استهداف ʾمدنيينʿ أو ʾأهداف مدنيةʿ في الظاهر، بأن الهجوم كان مخالفاً للقانون."[22] وتبرير ذلك واضح وبسيط: فالمستشفيات الفلسطينية ليست مستشفيات، والعيادات ليست عيادات، وسيارات الإسعاف ليست سيارات إسعاف، والطاقم الطبي ليس طاقماً طبياً، والمرضى والجرحى ليسوا مرضى ولا جرحى. قد يبدو في الظاهر أنهم جميعاً كذلك، لكنهم ليسوا ما يبدون عليه. المستشفى ليس جناحاً طبياً وإنما رصيف للولوج إلى النفق، والعيادة ليست مستوصفاً للمرضى الخارجيين وإنما مخبأ، وسيارات الإسعاف لا تنقل الجرحى والمرضى وإنما الأسلحة، وأفراد الطاقم الطبي ليسوا أطباء وإنما هم مقاتلون. وفي ظل هذا المنطق، لا توجد أي وحدة طبية محصنة ضد الهجوم، وكل مستشفى وعيادة وسيارة إسعاف يمكن أن تدمرها إسرائيل بالأسلحة المتطورة التي تتلقاها من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

إن تفسيرات إسرائيل لقوانين الحرب تخدم نهجها الحربي الذي لا يميز بين ما هو مدني وما هو عسكري. لقد اتجه التفكير القانوني العسكري في إسرائيل على مدى العقدين الماضيين نحو مزيد من التطرف وصولاً إلى تحويل جميع المدنيين وجميع المنشآت والمكونات المدنية إلى أهداف بطريقة تتوافق تماماً مع التصريحات الداعية إلى الإبادة الجماعية التي أدلى بها القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون - وخصوصاً الادعاء المشين بأنه لا يوجد مدنيون غير متورطين في الحرب في غزة. ولم تتحدَّ إسرائيل المعايير الإنسانية التي تدعو الأطراف المتحاربة إلى حماية المرافق الصحية خلال الصراع المسلح فحسب، بل يبدو أنها تعمدت استهداف الوحدات الطبية على وجه التحديد. ومن المهم التأكيد أنها لم تعلق تطبيق القانون بل فعّلت الاستثناءات الواردة فيه.[23] والواقع أن إسرائيل تفسر قوانين الحرب - التي صيغت على هيئة أحكام توفر الحماية، تليها سلسلة من الاستثناءات التي تسمح للمهاجمين باستهداف الأشخاص والمواقع المحمية ــ كما لو أن الاستثناءات هي القاعدة. وكما ذكرنا، استهدفت قوات جيشها المرافق الصحية في غزة نحو 500 مرة على مدى ثمانية أشهر بين السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 والسادس من حزيران/يونيو 2024، فضربت جميع المستشفيات الـ 36 في القطاع وعشرات العيادات وسيارات الإسعاف، وفي كثير من الأحيان عدة مرات. وقبل كل هجوم وبعده، ساقت مزاعم بأنها توفر الحماية للمقاتلين، مستخدمة الاستثناءات المتعلقة بالدروع البشرية المنصوص عليها في قوانين الحرب لتبرير الهجوم. إن مضاعفة الاتهامات، التي لا تتوقف على ما يبدو، باستخدام الدروع البشرية، ومدها لتشمل كامل قطاع غزة، دليل على مدى سهولة التذرع بالاستثناءات القانونية على نحو يلغي الحماية المقدمة للمرافق الطبية.

إن المبررات القانونية التي تسوقها إسرائيل، وخصوصاً المزاعم التي تروِّج لها حول استخدام المرافق دروعاً بشرية، تهدد أسس بنية النظام القانوني الدولي التي صيغت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كجزء من الجهود الرامية إلى تعزيز الرؤية والعزم على أن الإبادة "لن تتكرر على الإطلاق". وإذا كان من الممكن التذرع باتفاقيات جنيف التي أُبرمت بعد الحرب العالمية الثانية، كما تفعل إسرائيل لإضفاء الشرعية على أفعالها التي قد تدمر شعباً "بأكمله أو قطاعات منه"، فإن النظام الدولي القائم على الأنظمة واللوائح، والذي أنشئ لتنظيم الحرب وفقاً للمبادئ الإنسانية يصير هنا هو نفسه الأداة المستخدمة لإبطال هذا النظام. وتستشهد إسرائيل ببنود اتفاقيات جنيف المتعلقة بالمستشفيات وتوظفها لتقويض الحماية التي توفرها اتفاقيات جنيف للمرافق الطبية. والحجة التي تلجأ إليها باستمرار هي تصوير المستشفيات على أنها "دروع بشرية" لتبرير الهجمات التي تبدو مدروسة لتدمير الفلسطينيين كمجموعة، وإضفاء الشرعية على تلك الهجمات.

إصلاح القانون[24]

إذا كان القانون الدولي يهدف إلى توفير الحماية التي تشتد حاجة المرافق الطبية إليها، ينبغي تعديل صياغة القانون للتشديد على أن حظر مهاجمة المرافق الطبية منصوص عليه بموجب القانون الدولي العرفي (أي القواعد القطعية أو الآمرة)، وأن الاستثناء لا يجوز في هذه الحالات. وعلى الرغم من أننا ندرك أن فصائل مسلحة استخدمت المرافق الطبية في بعض الأحيان لأغراض عسكرية، فإن ما يتكرر على نحو أكبر ويثير قدراً أكبر من القلق هي الطريقة التي تستشهد بها الحكومات المختلفة على نحو متزايد بحجة استخدام "مستشفى كدرع بشرية" كمبرر للهجوم المتعمد والواسع النطاق على منشآت الرعاية الصحية. وبالنظر إلى الهجمات الواسعة النطاق على المرافق الطبية، من المنطقي أن نستنتج أن الادعاء بتحويل المرافق دروعاً بشرية يُستخدم ليس فقط لإضفاء الشرعية على هجمات محددة، لكن لتبرير القصف الاستراتيجي الشامل الذي يهدف إلى تدمير المرافق وحرمان منطقة محددة أو بلد معين من الحصول على الرعاية الصحية. وكما أظهرت الأبحاث الأخيرة، فإن تدمير النظام الصحي يمكن أن يكون جزءاً من استراتيجية هدفها: أ) معاقبة السكان المستهدفين؛[25] ب) إضعاف السكان المستهدفين على نحو منظم لدفعهم إمّا إلى الخضوع (على سبيل المثال، عندما تفعل دولة ذلك ضد سكانها)،[26] وإمّا إلى المقاومة (على سبيل المثال، عندما تعمد دولة إلى ذلك للتأثير في سكان دولة أُخرى على أمل دفعهم إلى أن ينتفضوا على النظام)؛[27] ج) تسهيل الإخلاء الجماعي القسري؛[28] د) تسريع الإبادة الجماعية وتكثيفها.[29] لذلك نوصي بفرض حظر كامل على مهاجمة المرافق الطبية، ومثلما هي الحال فيما يتعلق بالحماية من الاعتداء الجنسي والتعذيب، ينبغي أن تكون الحصانة الطبية مطلقة.[30]

ويشكل حظر التعذيب قاعدة ملزمة في القانون الدولي العرفي الذي يلزم جميع الدول بالامتثال، حتى في حال عدم التصديق على المعاهدة.[31] وسواء كان الصراع دولياً (بين الدول) أو داخلياً (داخل دولة واحدة)، يتعين على جميع الأطراف الامتناع عن تعريض أي شخص بين أيديهم للتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة، بما يشمل المقاتلين المشاركين في القتال. إن أي فعل من أفعال التعذيب المرتكبة في سياق نزاع مسلح يشكل جريمة حرب.[32] لقد كانت الحجة التي سيقت ضد الحظر المطلق للتعذيب تستند إلى سيناريو القنبلة الموقوتة، وهو أنه حين تقبض أجهزة الأمن على إرهابي زرع قنبلة أو يعرف مكان زرع القنبلة، فهي تحتاج، كما تقول الحجة، إلى استخدام التعذيب للحصول بسرعة على معلومات حول موقع القنبلة من أجل إنقاذ أرواح العديد من الضحايا المحتملين.[33] وفي حين أنه يصعب تماماً العثور على حالة واحدة من حالات "القنبلة الموقوتة" أدى تعذيب مشتبه به فيها إلى الكشف عن مكان قنبلة، فقد استُشهد بهذا السيناريو مراراً وتكراراً لتبرير تعذيب الآلاف من المعتقلين والأبرياء.[34]

إن الاستثناء المستند إلى القنبلة الموقوتة، وذاك المستند إلى استخدام مستشفى كدرع بشرية، يوفران مبرراً قانونياً لانتهاك القانون الدولي. وقد أظهرت الأدلة التجريبية ليس فقط من غزة، بل وأيضاً من سورية واليمن، أنه بسبب هذا الاستثناء وغيره، لم يفعل القانون شيئاً يذكر لمنع ثقافة تفجير المستشفيات، فإصلاح القانون الدولي، بحيث يتضمن حظراً مطلقاً لقصف المرافق الطبية والعاملين فيها، من شأنه أن يساعد في منع الانتهاكات المتعمدة والفظيعة التي نشهدها حالياً والمنطق غير الأخلاقي الذي يغذيها. ومع الحظر المطلق لقصف المستشفيات، سوف يكتسب العاملون في المجال الطبي الحماية المطلقة، ما يسمح لهم بمواصلة أداء وظيفتهم المتمثلة في إنقاذ الأرواح، وفقاً لمدونتهم الأخلاقية، مع تراجع خطر تعرضهم للاستهداف. وفي حين يقول العاملون في الهيئات الصحية العالمية ومنظمات حقوق الإنسان والعديد من المؤسسات الأُخرى إن المتحاربين لا يخضعون للمساءلة عن قصف المستشفيات، فقد أظهرنا أن قانون النزاعات المسلحة يوفر في الواقع لهؤلاء المتحاربين مجموعة أدوات يمكّنهم من خلالها الادعاء أن قصفها مشروع، لذلك فنحن ندافع عن فرض حظر مطلق. وعلى الرغم من أننا نعلم أن حظر اللجوء إلى التعذيب لم يوقف استخدام التعذيب، فإنه ساعد في خلق إطار معياري ضد التعذيب، ما دفع أولئك الذين يستخدمونه إلى اللجوء إلى أماكن سرية وزنازين استجواب غير معروفة أُخرى. ونحن نؤكد أن حظر مهاجمة المرافق الطبية من شأنه أن يجعل قصف المستشفيات من دون عقاب أكثر صعوبة. 

 

[1] United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs, Reported impact snapshot | Gaza Strip (19 June 2024).

See also Bram Wispelwey, David Mills, Yara M. Asi, et al, “Civilian Mortality and Damage to Medical Facilities in Gaza,” BMJ Glob Health 2024; vol. 9, issue 5.

[2] WHO, “Gaza Hostilities 2023/2024 - Emergency Situation Reports, June 6 2024”.

[3] Yara M. Asi, Osama Tanous, Bram Wispelwey and Mohammed AlKhaldi, “Are There ‘Two Sides' to Attacks on Healthcare? Evidence from Palestine,” European Journal of Public Health, 31, no. 5 (October 2021), pp. 927–928; Marwan Mosleh, Koustuv Dalal, Yousef Aljeesh, and Leif Svanström, “The Burden of War-Injury in the Palestinian Health Care Sector in Gaza Strip,” BMC Int Health Hum Rights, 18, no. 1 (2018), p. 28.

Theresa Farhat, Sarah Ibrahim, Zahi Abdul-Sater and Ghassan Abu-Sittah, “Responding to the Humanitarian Crisis in Gaza: Damned If You Do… Damned If You Don't!Ann Glob Health, 89, no 1 (August 21, 2023), p. 53.

PMID: 37637468; PMCID: PMC10453976.

[4] Health under Occupation, Medical Aid for Palestinians (MAP), 16 September 2017.

[5] Health under Occupation, MAP.

[6] Bachmann et al., Gaza 2014: Findings of an Independent Medical Fact Finding Mission, pp.34–35.

[7] Elisabeth Mahase, “Gaza: Israeli Airstrikes Kill Doctors and Damage Healthcare Facilities,” BMJ 373, no. 1300 (2021).

 “A Band-Aid Won't Heal Gaza's Wounds,” Medical Aid for Palestinians, 2021.

[8] Additional Protocol I, Article 12.

[9] Additional Protocol I (emphasis added).

[10] Jean Pictet et al., Commentary on the Additional Protocols of 8 June 1977 to the Geneva Conventions of 12 August 1949, International Committee of the Red Cross, 1987, 175.

[11] Additional Protocol I. Emphasis added.

[12] Neve Gordon, “The Moral Norm, the Law, and the Limits of Protection for Wartime Medical Units”, in Everybody's War: The Politics of Aid in the Syria Crisis, ed. Jehan Bseiso, Michiel Hofman, and Jonathan Whittall (Oxford University Press, 2021), pp. 58–85.

[13] International Committee of the Red Cross, “Respecting and Protecting Health Care in Armed Conflicts and in Situations Not Covered by International Humanitarian Law,” March 2012.

[14] Nicola Perugini and Neve Gordon, “Medical Lawfare: The Nakba and Israel's Attacks on Palestinian Healthcare,” Journal of Palestine Studies (2024), pp. 68-91.

[15] https://twitter.com/IDF/status/1718010359397634252

[16] For more on how civilians are cast as human shields to justify military strikes, see Neve Gordon and Nicola Perugini, Human Shields: A History of People in the Line of Fire (University of California Press, 2020).

[17]Israel/OPT: Israel's Raid of al-Shifa Hospital is a Devastating Attack on Human Rights in Gaza Crisis”, AMNESTY International, 27/11/2023.

[18] Ibid.

[19] Application of the Convention on the Prevention and Punishment of the Crime of Genocide in the Gaza Strip (South Africa v. Israel) Document Number 192-20231228-APP-01-00-EN December 29, 2023.

[20] https://www.icj-cij.org/sites/default/files/case-related/192/192-20240112-ora-01-00-bi.pdf

[21]Anatomy of a Genocide,” Report of the Special Rapporteur on the Situation of Human Rights in the Palestinian Territories Occupied since 1967, Francesca Albanese A/HRC/55/73, 25 March 2024.

Luigi Daniele, “A Lethal Misconception, in Gaza and beyond: Disguising Indiscriminate Attacks as Potentially Proportionate in Discourses on the Laws of War,” November 7, 2023.

 Nicola Perugini, “Safe Zones: Israel's Technologies of Genocide,” January 6, 2024.

[22] Conflict 2023 - Some Factual and Legal Aspects - Israel Ministry of Foreign Affairs (2 NOV 2023).pdf: :Key Legal Aspects, 02 November 2023, pp. 7, 9.

[23] Neve Gordon, “The Moral Norm, the Law, and the Limits of Protection for Wartime Medical Units,” in Everybody's War: The Politics of Aid in the Syria Crisis (2021), pp. 58–85.

[24] This section is based on arguments we present in Neve Gordon and Nicola Perugini, “‘Hospital Shields' and the Limits of International Law,” European Journal of International Law, 30, no. 2 (2019), pp. 439–463.

[25] Jonathan Kennedy and Domna Michailidou, “Civil War, Contested Sovereignty and the Limits of Global Health Partnerships: A Case Study of the Syrian Polio Outbreak in 2013,” Health Policy and Planning 32, no. 5 (2017), p. 690.

[26] Daniel Feierstein, Genocide as Social Practice: Reorganizing Society under the Nazis and Argentina's Military Juntas (New Brunswick, NJ: Rutgers University Press, 2017).

[27] Omar Dewachi, Ungovernable Life: Mandatory Medicine and Statecraft in Iraq (Stanford, CA: Stanford University Press, 2017).

[28] OHCHR and UN Habitat, Forced Evictions, Fact Sheet 25/Rev. 1, 1–50.

[29] Thomas MacManus, Penny Green, and Alicia de la Cour Venning, Countdown to Annihilation: Genocide in Myanmar (International State Crime Initiative, 2015).

[30] Theodor Meron, Human Rights and Humanitarian Norms as Customary Law (Clarendon Press – Oxford, 1989).

[31] Nowak, McArthur, and Buchinger, supra note 88.

[32] Rome Statute, supra note 85.

[33] Alan Dershowitz, Why Terrorism Works: Understanding the Threat, Responding to the Challenge (New Haven, CT: Yale University Press, 2002).

[34] See Human Rights Watch, Torture Doesn't Work (2006), (last visited January 11, 2019)

 Lisa Hajjar, “Torture and the Future,” Middle East Report Online (2004).

عن المؤلف

نيكولا بيروجيني: أستاذ في قسم السياسة والعلاقات الدولية في جامعة إدنبره. تدور أبحاثه حول سياسات حقوق الإنسان والقانون الدولي وأخلاقيات العنف، مع التركيز بشكل خاص على فلسطين. يستكشف بحثه الحالي دور المدنيين في حروب التحرير الوطني المناهضة للاستعمار.

نيف غوردون: أستاذ في كلية الحقوق بجامعة كوين ماري في لندن. يركز في أبحاثه على القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان وأخلاقيات العنف والصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. غوردون هو الرئيس السابق للجنة الحرية الأكاديمية في الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط BRISMES، ويكتب مقالات صحافية بانتظام.

بيروجيني وغوردون هما المؤلفان المشاركان لكتاب "حق الإنسان في الهيمنة" The Human Right to Dominate  (دار نشر جامعة أكسفورد 2015) و"الدروع البشرية: تاريخ أناس في خط النار" Human Shields: A History of People in the Line of Fire (دار نشر جامعة كاليفورنيا 2020).