تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
تدمير القطاع الصحي في قطاع غزة
المؤلف
ليث حنبلي
سنة النشر
اللغة
انجليزي
عربي
عدد الصفحات
11

قال الدكتور غسان أبو ستة في شهادة له: "إن تدمير النظام الصحي هو الهدف الرئيسي للاستراتيجيا العسكرية [الإسرائيلية]"، بعد أن أمضى ستة أسابيع وهو يعمل في مستشفيات متعددة في مختلف أنحاء قطاع غزة خلال حرب الإبادة الجماعية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.[1] وقد خلص فريق جنوب أفريقيا القانوني، الذي اتهم إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في إحالته القضية إلى محكمة العدل الدولية، إلى استنتاجات كهذه، فقال: "أكثر من أي شيء آخر تقريباً، كان الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة بمثابة هجوم على نظام الرعاية الصحية الطبية في غزة."[2]‎ 

ولا يترك خطاب قوات الاحتلال الإسرائيلي وممارساتها مجالاً للشك في هذه الاستنتاجات؛ فمنذ 9 شباط/فبراير، لم يعد أي من المستشفيات في قطاع غزة يعمل بكل طاقته، إذ إن 13 فقط من مجموع 36 مستشفى تعمل بجزء من قدراتها.[3] أمّا عيادات الرعاية الصحية الأولية، فلا يعمل منها سوى 17%، ومرافق الرعاية الصحية الأخيرة المتبقية مكتظة تماماً. وهناك كثيرون يموتون بسبب الأوضاع المدمرة التي فرضتها حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية، كالمجاعة، والالتهابات الناجمة عن الاكتظاظ، والأوضاع غير الصحية بسبب تدمير إسرائيل البنية التحتية الأساسية، والمضاعفات الناجمة عن انقطاع العلاجات التي ينبغي أخذها في مواعيدها، كما في رعاية مرضى السرطان.‏

ما الذي تقصده إسرائيل؟

لقد كانت نية إنهاك القطاع الصحي في غزة وتدميره واضحة منذ بداية الحرب؛ ففي 14 تشرين الأول/أكتوبر، أي بعد مرور 7 أيام فقط على الحرب، أمر جيش الاحتلال بإخلاء 22 مستشفى في شمال قطاع غزة، ومثّلت الغارة الجوية الإسرائيلية على مركز تشخيص السرطان في المستشفى الأهلي في ذلك اليوم، والتي أدت إلى إصابة 4 من العاملين فيه، إنذاراً لما هو آتٍ. وعلى مدار الأيام الثلاثة التالية، تلقى مديرو مستشفيات شمال قطاع غزة، كالشفاء والأهلي والعودة، مكالمات هاتفية متكررة من قادة الجيش الإسرائيلي، يأمرونهم فيها بإخلاء المستشفيات تحت التهديد بالقصف إذا لم يمتثلوا، لكن سرعان ما قررت طواقم المستشفيات بالإجماع، وفي استجابة أخلاقية شجاعة، أن المستشفيات، باعتبارها مراكز تقدّم خدمات حيوية، لن تقوم بالإخلاء.

ومهدت هذه التهديدات الطريق للضربة الإسرائيلية (كما أظهرت عدة تحقيقات) على المستشفى الأهلي في 17 تشرين الأول/أكتوبر، والتي أسفرت عن مقتل 471 شخصاً من سكان غزة الذين كانوا يبحثون عن مأوى في ساحات المستشفى، كما ألحقت أضراراً جسيمة بالمستشفى نفسه.[4] وبدلاً من تحميل إسرائيل المسؤولية عن جرائمها الشنيعة، فقد تلقف العالم الدعاية الإسرائيلية، وتداول المزاعم التي تعصى على الفهم، والتي فحواها أن ما حدث نجم عن فشل فصيل فلسطيني مقاوم في إطلاق صاروخ، فانفجر في حرم المستشفى الأهلي، وتجاهل الإجراءات التي كانت إسرائيل تتخذها لتفكيك النظام الصحي في غزة. وفشلُ المجتمع الدولي هذا في إدانة إسرائيل شجعها على إطلاق العنان لآلتها العسكرية، وتنفيذ هجوم أشمل ضد مؤسسات الرعاية الصحية.

وفي 27 تشرين الأول/أكتوبر، توجه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إلى العالم بقوله: "الآن صارت الحقيقة واضحة؛ ʾحماسʿ تشن الحرب من المستشفيات، وتمارس الإرهاب من المستشفيات." وفي الأيام التالية، تركزت هذه الادعاءات، بصورة خاصة، على مستشفى الشفاء في مدينة غزة، والذي يعمل فيه ربع إجمالي الأطباء والممرضين في مستشفيات قطاع غزة قاطبة. وبحلول 10 تشرين الثاني/نوفمبر، وبعد عدة أيام من التحريض المستمر والغارات التي نفذتها المسيّرات مستهدفة المستشفيات، كانت الدبابات الإسرائيلية تحاصر 4 مستشفيات في مدينة غزة، وفي 11 تشرين الثاني/نوفمبر، حاصرت أيضاً مستشفى الشفاء. وخلال الأيام والأسابيع التالية، فككت القوات الإسرائيلية، على نحو منهجي مدروس، البنية التحتية للرعاية الصحية في شمال قطاع غزة، عبْر قصف المستشفيات، وقطع الكهرباء والإمدادات عنها، وإجبار المرضى والموظفين على إخلائها تحت تهديد السلاح، وإطلاق النار على العاملين في المستشفيات والباحثين عن مأوى، أو مَن يتلقون الرعاية فيها.[5] 

منذ اندلاع الحرب، أعلن المسؤولون الإسرائيليون الدوافع وراء تدمير قطاع الرعاية الصحية في غزة على نطاق واسع. وقد قررت إسرائيل جعل قطاع غزة غير صالح للعيش؛ ففي 9 تشرين الأول/أكتوبر، أعلن وزير "الدفاع" الإسرائيلي فرض "حصار مُطبق على غزة؛ لا كهرباء، ولا طعام، ولا ماء، ولا وقود. كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات بشرية وعلينا أن نتصرف وفقا لذلك." وأضاف: "غزة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل، وسوف نقضي على كل شيء. وإذا لم يستغرق الأمر يوماً واحداً، فسيستغرق أسبوعاً، وربما سيستغرق أسابيع أو حتى أشهراً، وسنصل إلى كل مكان." وفي 12 تشرين الأول/أكتوبر، قال الرئيس الإسرائيلي: "إنها أمّة بالكامل هي المسؤولة. ليس صحيحاً القول إن المدنيين لا يعلمون، وإنهم غير متورطين، هذا غير صحيح مطلقاً"، وتابع: "سنقاتل حتى نكسر عمودهم الفقري"، وأضاف لاحقاً: "سنقتلع الشر ليكون هناك خير للمنطقة والعالم بأسره." وفي 13 تشرين الأول/أكتوبر، أمر الجيش الإسرائيلي 1.1 مليون شخص يعيشون في شمال قطاع غزة بإخلاء منازلهم خلال 24 ساعة.[6] 

إن هدف التطهير العرقي في غزة هو امتداد مباشر لطبيعة إسرائيل كدولة استعمارية استيطانية، تشكيلها مرتبط، بصورة أساسية، بالنكبة وتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، وكثيراً ما يستحضر المسؤولون الإسرائيليون النكبة بصفتها عقاباً للمقاومة الفلسطينية، بما في ذلك خلال حرب الإبادة الجماعية الحالية، لأنهم يدركون أن استمرار المشروع الاستعماري الاستيطاني، تماماً كما حدث لدى تأسيسه، يعتمد على استمرار استلاب الفلسطينيين.

ما من مكان آمن

كانت إسرائيل واضحة في أنها تهدف إلى إيجاد الظروف التي تمنع استمرار مقومات الحياة، وخصوصاً في شمال قطاع غزة. ولذلك، فإن تدمير إسرائيل للبنية التحتية المدنية وأساسيات الحياة يجب أن يُوصف على النحو الصحيح؛ فهي تدابير محسوبة ومتعمدة واستراتيجية، وليست عشوائية. ويتجلى ذلك عبْر قطع المياه والغذاء والكهرباء والوقود، والاستهداف المتكرر للبنية التحتية الأساسية، بما في ذلك أنابيب الأكسجين في المستشفيات والألواح الشمسية. وكان الهدف من تدمير قطاع الرعاية الصحية، وخصوصاً مشاهد تدميره، هو إرسال رسالة فحواها أنه لا يوجد مكان آمن، ولا حتى في المنشآت الصحية التي تحظى بحماية خاصة بموجب القانون الدولي. وهذه الرسالة ليست موجهة فقط إلى سكان غزة، بل أيضاً إلى المؤسسات الدولية والأجنبية، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وأطباء بلا حدود، التي استهدفت قوات الاحتلال منشآتها وفرقها، حتى بعد التنسيق المسبق معها ومشاركة إحداثياتها وتحركاتها.

ويتكرر اتجاه استهداف مقدمي الرعاية الصحية في مختلف الأماكن التي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية، وهو ما يدل على الطبيعة المنهجية لهذه السياسة. ووفقاً لشهادات الأسرى المفرَج عنهم في غزة، فإن الجيش الإسرائيلي يستهدف العاملين في مجال الرعاية الصحية المختطفين، عبر إخضاعهم لمعاملة مهينة وغير إنسانية في أثناء الاحتجاز.[7] وتستهدف إسرائيل أيضاً منشآت الرعاية الصحية في الضفة الغربية؛ فمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، قتلت 10 أشخاص، وأصابت 62 آخرين في 364 هجوماً على قطاع الرعاية الصحية في الضفة الغربية وحدها،[8] وقد صار من المعتاد أن يلجأ الجيش الإسرائيلي إلى قطع الطرق المؤدية إلى المستشفيات في أثناء المداهمات والغارات التي ينفذها في جنين وطولكرم، كما منع منذ فترة طويلة سيارات الإسعاف من الوصول إلى الجرحى، حتى إنه أطلق النار على سيارات الإسعاف في أثناء محاولتها الوصول إلى المصابين. وتصاعدت هذه الهجمات بسرعة لتصل إلى مداهمة المستشفيات، وبلغت ذروتها في عملية الاغتيال السرية لثلاثة فلسطينيين في مستشفى ابن سينا في جنين، هم مريض معوق يتلقى العلاج من إصابات ناجمة عن غارة جوية إسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر، واثنان آخران كانا يتفقدانه.[9]

عواقب تدمير القطاع الصحي

تترتب تأثيرات كاسحة مباشرة وغير مباشرة على هذا التدمير الممنهج، وتشمل خسائر في الأرواح، والدمار الناجم مباشرة عن استهداف البنية التحتية لمنشآت الرعاية الصحية ومعداتها. وأفادت منظمة الصحة العالمية بأن 627 شخصاً قُتلوا، وأُصيب 783 غيرهم في 342 هجوماً على قطاع الرعاية الصحية في غزة،[10] كما دمرت هذه الهجمات 27 مستشفى، و47 سيارة إسعاف. وحتى 23 كانون الثاني/يناير، قتلت إسرائيل 403 من العاملين في مجال الرعاية الصحية، واختطفت 215 شخصاً، وأصابت مئات آخرين.[11] وكان العديد من الضحايا من المسعفين الطبيين المناوبين بالتنسيق المسبق، في كثير من الأحيان، مع الجيش الإسرائيلي، وأُصيب أحد الأطباء برصاصة قناص في أثناء عمله في غرفة العمليات، كما تعرضت منازل العديد منهم للقصف في أثناء عودتهم من نوبات عملهم في المستشفى.

وترجع التأثيرات غير المباشرة إلى الضغوط الواقعة على قطاع الرعاية الصحية بسبب إغلاق الأغلبية العظمى من خدماته، مع الزيادة الشديدة في الطلب على تلك الخدمات؛ فعشرات الآلاف من الإصابات الناجمة عن القصف الإسرائيلي تتجاوز فعلاً قدرة قطاع الرعاية الصحية كثيراً على تلبيتها، وخصوصاً أن عدة مصابين يصلون في وقت واحد، وهو ما يثقل كاهل المرافق، ويحول دون قدرة الطواقم الصحية على تقديم الرعاية إليهم على الفور. ومن الجرحى الفلسطينيين البالغ عددهم 70,000، هناك ما لا يقل عن 1000 طفل بُترت أطرافهم،[12] وهؤلاء هم جزء من آلاف آخرين أُصيبوا بجروح غيرت حياتهم خلال الحرب الحالية والاعتداءات السابقة واحتجاجات مسيرة العودة الكبرى،[13] ويحتاجون إلى رعاية متخصصة معقدة تشمل العناية الطبية والجراحية وإعادة التأهيل الفيزيائي والرعاية النفسية.

ويترافق الانخفاض الحاد في قدرة قطاع الرعاية الصحية وزيادة الضغط عليه مع زيادة حالات الضعف لدى السكان وانتشار الأمراض بينهم بسبب الأوضاع المعيشية التي تفرضها إسرائيل؛ إذ دمرت الأغلبية العظمى من المخابز وقوارب الصيد وربع الأراضي الزراعية، وهو ما ألقى بكل شخص في قطاع غزة في براثن الجوع،[14] وصار الحصول على المياه النظيفة محدوداً جداً بعد أن قطعت إسرائيل خطين من خطوط الأنابيب الثلاثة الرئيسية، وقصفت الآبار ومحطات تحلية المياه، وحدّت عدد شاحنات المساعدات.[15] وأدى القصف الإسرائيلي والحصار إلى توقف عمليات معالجة مياه الصرف الصحي وإدارة النفايات الصلبة كافة، الأمر الذي يهدد بتلويث مصادر المياه المتبقية. كما أدى القصف المستمر لجميع المناطق، باستثناء مناطق صغيرة جداً، بما في ذلك أغلبية المنازل، وأوامر الإخلاء، والقيود المفروضة على دخول المساعدات، إلى حشر الأغلبية العظمى من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة في جيوب صغيرة شديدة الاكتظاظ.

هذا فضلاً عن المخاطر المباشرة التي تشكلها أوضاع الجوع والعطش والتلوث، وهذه العوامل تزيد، بصورة كبيرة، من تعرض السكان لاعتلال صحي على مستوى الفرد والسكان. وفعلاً، هناك مئات الآلاف من حالات العدوى، كالتهاب الكبد الوبائي "أ"، والتهابات الجهاز التنفسي، والإسهال. كما أن هناك أشخاصاً يموتون فعلاً بسبب الجوع والعطش، لكن الآثار المتوسطة والطويلة المدى للحرب من المرجح أن تقتل أكثر كثيراً من الحرب نفسها. هذا بالإضافة إلى أن التعرض المستمر للعنف والتجريد من الملكية والتشريد والخسارة وانعدام الأمن والاستقرار يسبب أيضاً ضائقة شديدة بين الناجين من الحرب، وهو ما يؤدي إلى تفاقم الضائقة الحالية بسبب دورات العنف التي لا تنتهي، والتي لم تكن خدمات الصحة العقلية قادرة على التعامل معها في ظل غياب الحلول السياسية التي تضع حداً نهائياً للعنف، وتحقق التحرير والعدالة.[16]

وعلاوة على ذلك، فإن الحصار الشامل الذي تفرضه إسرائيل يتسبب في نقص ونفاد مخزون الوقود والأكسجين والمعدات والأدوية، وما يضاعف من هذا النقص أن 70% من المساعدات الطبية المسموح بإدخالها غير صالحة للاستعمال.[17] وبعبارة أُخرى، فإن كثيراً من المساعدات هي مجرد ذر للرماد في العيون، ومن ثم، فإن هذه القيود تمنع العاملين في مجال الرعاية الصحية من تقديم العلاج الأمثل للمرضى والجرحى، وهو ما يتسبب بزيادة المضاعفات، حتى بالنسبة إلى الحالات البسيطة والروتينية التي تتطلب مزيداً من الموارد لمعالجتها. ومنذ الأيام الأولى للحرب، بدأت المستشفيات تقنين خدمات غسيل الكلى لمرضى الفشل الكلوي، واللجوء إلى العلاجات المنزلية لتنظيف الجروح، وعلى مدى عدة أسابيع، أفاد الأطباء في قطاع غزة بأن فرز الحالات صار يقتصر على تحديد من يمكن إنقاذ حياتهم، وفي بعض الأحيان، اختيار مَنْ سينجو، وذلك بسبب الحجم الهائل للطلب والنقص الحاد المصاحب في الموارد. ‎

وينهار قطاع الرعاية الصحية على الرغم من قدرته على التكيف مع العمل في ظل الأوضاع القصوى، فقد شمل الحصار الذي فرضته إسرائيل على قطاع غزة منذ سنة 2007 قيوداً صارمة على دخول الإمدادات الطبية، وصُنف كثير منها على أنه "ذو استخدام مزدوج [مدني وعسكري]"، وهو ما تسبب في كثير من المماطلة والنقص في عدة مواد أساسية؛ سنة 2021، بلّغت مرافق الرعاية الصحية عن نقص في 45% من الأدوية الأساسية، و31% من المستهلكات الطبية، و65% من منتوجات المختبرات.[18] وعلى الرغم من ذلك، فقد أظهر العاملون في مجال الرعاية الصحية في غزة والزوار من الخارج، باستمرار، قدرة غير عادية على التكيف والإبداع داخل قطاع الرعاية الصحية لتدبُر الأمور في ظل هذه الأوضاع الصعبة.

إن الحصار المستمر منذ 17 عاماً على قطاع غزة، والذي يؤثر في قطاع الرعاية الصحية، بالإضافة إلى جميع جوانب الحياة الأُخرى، يوضح هدف إسرائيل الطويل الأمد المتمثل في جعل القطاع غير صالح للعيش. وفي وقت مبكر من سنة 2017، قال منسق الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية والأنشطة التنموية في الأراضي الفلسطينية المحتلة: "لقد تم فعلاً تجاوُز عتبة ʾعدم القدرة على العيشʿ."[19]

هناك عدة تأثيرات للحرب لا يمكن قياسها في الوقت الحالي. ويشمل تدمير مرافق الرعاية الصحية تدمير السجلات الطبية، والحيلولة دون إدارة حالات المرضى المزمنة على النحو المطلوب، واستخلاص البيانات الوبائية لدعم تخطيط الخدمات المستقبلية، كما يتضمن أيضاً تدمير المعدات على نطاق واسع، الأمر الذي يتطلب استثمارات كبيرة لاستبدالها. وعندما يُقتل العاملون في مجال الرعاية الصحية، فإن مجتمعاتهم تخسر علاقاتهم وتأثيرهم داخلها، وعقوداً من الخبرة والدراية ستستغرق إعادة بنائها جيلاً كاملاً.

وعلى نطاق أوسع، فإنه لم يُعرف بعد تماماً مدى تأثير حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل في البيئة الطبيعية، لكن الأرجح أن يكون جسيماً. ولا شك في أن شدة القصف واستخدام الأسلحة الكيميائية سيؤثران في التربة، وبالتالي، في المحاصيل المحلية، ويمكن أن تظل مخلفاتهما عالقة في الهواء، وهو ما سيؤثر في كل الكائنات الحية في قطاع غزة، وإحدى العلامات الواضحة على ذلك إصابة عشرات الجنود الإسرائيليين بعدوى نادرة وخطِرة في أثناء ارتكابهم جرائم حرب في قطاع غزة، ومن الممكن أن يكون انتشار عدوى كهذه ناتجاً من الحروب السابقة والحصار الطويل الأمد المفروض على غزة، نظراً إلى أن الآثار البيئية للحرب يمكن أن تستغرق وقتاً طويلاً لتظهر.

الاستجابة العالمية

إن ردة فعل العالم تجاه الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل خلال الأشهر الأربعة الماضية كشفت مرة أُخرى التواطؤ العالمي مع قمع الشعب الفلسطيني. وقد رفضت اللجنة الدولية للصليب الأحمر حتى الآن إدانة الجيش الإسرائيلي، حتى بعد أن أطلق النار على العاملين فيها، وقصف القوافل التي تنسقها، ومنع موظفيها من زيارة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين. وتصدر منظمة الصحة العالمية، بصورة متكررة، بيانات جزئية وتعلن مطالب محدودة على الرغم من توثيقها بالتفصيل استهداف إسرائيل المتعمد للبنية التحتية للرعاية الصحية. كما لم تتخذ وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة سوى قليل من الإجراءات بعد أن قتلت إسرائيل 154 من موظفيها، لكنها طردت 9 منهم بمجرد أن طلبت إسرائيل ذلك. وأفاد العاملون في مجال الرعاية الصحية، وخصوصاً في شمال غزة، أن هذه المنظمات تتنحى جانباً حتى عندما يُطلب منها التدخل.

كما أن تصرفات هذه المنظمات وغيرها من المنظمات الأجنبية والعالمية هي نتيجة غير مفاجئة للتأثير غير المتناسب لدول الشمال العالمي فيها، وبما أن إسرائيل تحمي مصالح تلك البلاد وتعززها، فإنها تمنع باستمرار المنظمات التي تعمل مع الفلسطينيين من اتخاذ إجراءات لمحاسبة إسرائيل. ولهذا السبب، وعلى الرغم من أهمية فضح نفاقها، فإن مناشدة تلك المنظمات والدول لتغيير سياساتها ستكون عقيمة من دون أدنى شك.

ومن ناحية أُخرى، فقد خرجت تظاهرات تضامن مذهلة في جميع أنحاء العالم، تعبيراً عن الدعم الشعبي الساحق لفلسطين، ولا شك في أن الدعم الدافق هو نتيجة الظلم الهائل الذي شهدناه عبر البث المباشر، لكن من المهم الإشادة بالروح المذهلة التي يتمتع بها أهالي غزة، وتؤدي دوراً مهماً في إلهام استجابة كهذه. وفي أثناء مشاهدة العنف الإسرائيلي المدمر في غزة، شهد الناس في جميع أنحاء العالم أيضاً مشاهد وقصصاً عن العاملين في مجال الرعاية الصحية، وهم يعملون بلا كلل في ظل أوضاع صعبة على نحو لا يمكن استيعابه، وكيف يؤوي سكان غزة الغرباء الذين فقدوا منازلهم، ويجد الناس الفرح في تقاسم الطعام والاحتفال بأعياد الميلاد والولادات وبالزواج وسط الركام.

وعندما أطلقت نقابة الصحافيين المصريين "قافلة الضمير العالمي"، تطوع آلاف من جميع أنحاء العالم للانضمام إليها، بمن فيهم عاملون في مجال الرعاية الصحية، وصحافيون، وناشطون، وعمال إغاثة. كما تطوع أكثر من 850 طبيباً أردنياً للسفر إلى قطاع غزة لتقديم خدمات الرعاية الصحية، وشكّل عاملون في مجال الرعاية الصحية تجمعات في جميع أنحاء العالم للضغط على زملائهم ونقاباتهم وأماكن عملهم وحكوماتهم للوفاء بمسؤوليتهم الأخلاقية تجاه النضال الفلسطيني. هذا بالإضافة إلى الروابط القوية التي تشكلت بين البعثات الطبية وغيرها من البعثات التي تزور قطاع غزة على نحو منتظم، وخصوصاً منذ بدء الحصار الإسرائيلي سنة 2007.

وهذه التجمعات والائتلافات هي التي تدفع على نحو لا لبس فيه في اتجاه تحقيق المطالب الضرورية، وهي وقف إطلاق النار، وفرض حظر على تسليم الأسلحة إلى إسرائيل، ورفع الحصار من دون شروط. ولمحاسبة إسرائيل، ينبغي توسيع هذه المطالب لتشمل إصلاح الدمار الذي سببته، وإحباط هدفها المتمثل في جعل غزة غير صالحة للعيش عبر الضغط أيضاً من أجل صرف تعويضات وإعادة الإعمار بقيادة هيئات شعبية. إن تحقيق هذه المطالب هو الأمل الوحيد لتحقيق العدالة وإصلاح الدمار في غزة.

 

[1] “Dr. Ghassan Abu Sittah, who worked at both Gaza's Al-Shifa and Al-Alhi Baptist hospitals, tells Al Jazeera Israel's destruction of Gaza's health sector is part of a military strategy to wipe out Palestinians from the besieged enclave”, Al Jazeera English [@AJEnglish], X (twitter), 21/11/2023.

[2]Application Instituting Proceedings”, International Court of Justice, 2023.

[3] Hostilities in the Gaza Strip and Israel | Flash Update #115, OCHA, 9/2/2024.

[4] Israeli Disinformation: Al-Ahli Hospital, Forensic Architecture, 2024.

[5]Destruction of Medical Infrastructure in Gaza”, Forensic Architecture, 2024:

[6] “Application Instituting Proceedings”, op. cit.

[7] "تفاصيل مرعبة حول ظروف اعتقال الدكتور محمد أبو سلمية"، "حكايا غزة"، 2024.

[8]oPt Emergency Situation Update”, World Health Organization, Issue 22, 30/1/2024.

[9]IOF assassinate 3 Palestinians inside Ibn Sina Hospital in Jenin”, Al Mayadeen English, 30/1/2024.

[10] “oPt Emergency Situation Update”, op. cit.

[11]HWW-Palestine Update”, Healthcare Workers Watch – Palestine, X (twitter), 23/1/2024.

[12] Saada Allaw and Nour Kelzi, “Ghassan Abu Sitta: Genocide in Gaza”, The Legal Agenda, 29/1/2024.

[13]Two years on: people injured and traumatized during the ‘Great March of Return’ are still struggling”, OCHA, 6/4/2020.

[14]Over one hundred days into the war, Israel destroying Gaza’s food system and weaponizing food, say UN human rights experts”, United Nations: Human Rights Office of the High Commissioner, 16/2/2024.

[15] “Hostilities in the Gaza Strip and Israel | Flash Update #120”, OCHA, 16/2/2024.

[16] Weeam Hammoudeh, Smaah Jabr, Maria Helbich and Cindy Sousa, “On Mental Health Amid Covid-19”, Journal of Palestine Studies, vol 49, 11/12/2020.

[17]Gaza Health Ministry Spokesperson Ashraf al-Qudra: ‘70% of the medical aid entering Gaza cannot be utilized’”, Telegram: Quds News Network, 9/2/2024.

[18]After the Conflict: Gaza Recovery and Medical Aid”, ANERA, 2021.

[19]Gaza Ten Years Later”, United Nations Country Team in the occupied Palestinian territory, July, 2017.

عن المؤلف

ليث حنبلي: باحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية وكاتب في الصحة العامة والمجتمعية.